تمرد ستارمر.. في العجلة الندامة!
لم يطل الوقت حتى وجد ستارمر نفسه أمام التمرد الثاني، عندما طرح مشروع قرار تقليص "معونة الوقود" للمتقاعدين. لم يتجاوز عدد معارضيه 52 نائباً عمالياً، صوّت أحدهم ضد مشروع القرار الحكومي، فيما اكتفى الباقون بالتغيب عن الجلسة أو الاستنكاف
ثمة مسحة من الندم في توصيف رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير تجربته في إحداث ما يشبه الثورة في حزب العمال. قال في كتابه الأخير المعنون “في القيادة”: “حبذا لو بدأتُ عملية الإصلاح في وقت مبكر”. ويُستشف من معالجته أسباب “التأخر” وتداعياته أنه ينصح أي زعيم بخوض “معاركه الكبرى” أولاً. وقد اتبع كل من بوريس جونسون وليز تراس هذه “النصيحة”، قبل سنوات من طرحها، ما أدى إلى نتائج كارثية في الحالتين: البريكست القاسي والموازنة المصغرة.
ولعل أحد أسباب فشلهما هو حداثة عهدهما بالقيادة التي لا يمسك المرء بمفاتيحها إلا بعد فترة من الممارسة. تجربة كير ستارمر في أول شهرين من تسلمه السلطة، تشبه في بعض وجوهها تجربة سلفيه المحافظين. صحيح أن أسلوبه في الحكم لم يتبلور حتى الآن، لكنه سمع “نصيحة” معلمه الكبير على ما يبدو.
لم يكد يصل إلى 10 داونينغ ستريت، حتى شمّر عن ساعديه لمواجهة الأمور الجسام. وكان محظوظاً باعتبار أن أولى الأزمات الحقيقية في عهده كانت أعمال الشغب التي قام بها المتطرفون، وهي ذات طابع قانوني يتصل بصلب حياته المهنية المديدة. ولهذا تعامل معها باتزان وفعالية.
وذهب مزهواً بتغلبه على الرعاع إلى المحطة التالية: مواجهة التمرد الداخلي المتوقع ضد الإبقاء على السقف الذي وضعه المحافظون للمساعدات الحكومية المخصصة للعائلات بحيث تشمل ولدين فحسب. كان الضجيج بشأن هذا القانون عالياً سلفاً في أوساط العمال لأن الجدال بشأنه بدأ منذ كانوا في المعارضة. وهنا بطش فوراً بمن اقترفوا “جريمة” مخالفة تعليماته، وجمّد عضوية سبعة نواب معروفين شغلوا مناصب مهمة في حكومات الظل سابقاً.
ولم يغامر هؤلاء النواب عبثاً. فمن الممكن تخيل مدى الضرر الذي سيسببه تقليص المساعدات العائلية، حينما يعلم المرء أن طفلاً على الأقل من أصل كل أربعة، يعيش حالياً في فقر في ثلاثة أرباع الدوائر الانتخابية في البلاد. وعلى المستوى الوطني، فإن هناك 4 ملايين و200 ألف طفل يعانون الفقر، وهذا يمثل نحو 30 في المئة من أطفال بريطانيا. وثمة 46 في المئة ممن يعيشون في كنف عائلات تضم 3 أطفال أو أكثر يعانون الفقر الذي سيتفاقم بفعل خفض المساعدات.
لم يطل الوقت حتى وجد ستارمر نفسه أمام التمرد الثاني، عندما طرح مشروع قرار تقليص “معونة الوقود” للمتقاعدين. لم يتجاوز عدد معارضيه 52 نائباً عمالياً، صوّت أحدهم ضد مشروع القرار الحكومي، فيما اكتفى الباقون بالتغيب عن الجلسة أو الاستنكاف. غير أن جون تريكيت، وهو النائب الوحيد الذي تصدى بشجاعة لإملاءات زعيمه، لم تُجمّد عضويته على الفور كما حصل لرفاقه قبل أسابيع، بل اكتفى الحزب بتحذيره كتابياً بعد نحو أسبوع من التصويت!
سيوفر تقليص إعانة وقود الشتاء نحو مليار ونصف مليار جنيه إسترليني، كما زعمت الحكومة. وهي تأمل أن هذا سيسد جزءاً من العجز (22 مليار إسترليني) الذي خلفه لها المحافظون الذين اشتهروا تقليدياً بكفاءتهم في إدارة الاقتصاد، لكن يبدو أن مهاراتهم قد شاخت! ولفت معارضو هذا المشروع إلى أن هناك العديد من البدائل لسد الثغرة في مالية البلاد. وتساءل بعضهم ما إذا كان حرمان 10 ملايين متقاعد كهل، وربما مريض، من معونة بسيطة (200-300 إسترليني سنوياً) من شأنها أن تقيهم خطر الموت برداً، أقل أهمية بالنسبة إلى ستارمر من دعم المجهود الحربي الأوكراني الذي يحظى بـ7 مليارات إسترليني سنوياً أو من زيادة الإنفاق العسكري 20 مليار إسترليني سنوياً!
هناك ما يبرر التساؤل عن سبب تخلي الحزب الحاكم عن الناخبين الذين يدعي أنه يمثلهم. وقد كتب تريكيت في أعقاب التمرد الأول أن الحزب “يتمتع بأغلبية برلمانية ضخمة، ويواجه معارضة محبطة ومربكة. لذلك لا يمكن أن يكون هناك أي عذر على الإطلاق (…) لفشل حكومتنا في تحقيق العدالة الاجتماعية”.
والواقع أن تعامل ستارمر مع النواب الذين تحدوه في المرتين مختلف اختلافاً شاسعاً. فسرعته بفرض العقوبة وقسوتها في التمرد الأول توحيان بالتماهي مع جونسون الذي طرد 21 من الوزراء السابقين من كبار أعضاء الجناح الليبرالي في حزب المحافظين بعد نحو شهرين من تسلمه الزعامة. فهل أراد رئيس الوزراء هو الآخر التخلص من المشاغبين في بداية ولايته؟ لو كان هذا هدفه فعلاً لماذا لم يطرد تريكيت “بطل” التمرد الثاني على الأقل؟
قد يجعله هذا الإحجام أيضاً شبيهاً بجونسون من ناحية ثانية: التخبط. وثمة مثال جديد يرجح ذلك. فقبوله الغريب هدايا على شكل تذاكر لمباريات ناديه المفضل أرسنال وثياباً له ولزوجته، يذكر المرء بقوة بجونسون “زعيم الفضائح” الذي دأب على تلقي “الهدايا” من كل نوع. واللافت أن ستارمر دافع بشدة عن موقفه من الهدايا الشخصية، قبل أن يضطر للاعتذار والتعهد بعدم قبول الهدايا!
لكن ربما كان التأخر في محاسبة تريكيت يعود إلى أن ستارمر بدأ يتعلم فن الحكم، ويدرك أن التروي في مصارعة التحديات الصعبة خير من التعجل في مقارعتها! والحق أنه يحتاج إلى تعلم ذلك لأن هناك الكثير من التكهنات عن نهاية شهر العسل الذي تمتع به منذ الانتخابات الأخيرة في تموز (يوليو)، فشعبيته تراجعت بحسب استطلاعات الرأي حتى صارت تقارن بشعبية سوناك المتهالكة في أيامه الصعبة.
إن مواجهة تمرّد داخلي مرتين في غضون شهرين، أمر خطير في حد ذاته. فكيف إذا وجد نفسه أمام تمرد يعتقد أنه سيكون أكبر من سابقيه بسبب نظام الصحة الوطني الذي يبدو الآن مصمماً على معالجة أزماته المستفحلة التي فشل أسلافه، بمن فيهم بلير، بحلها؟