السودان

تقنين الاستبداد في الدستور السوداني

السودان يعاني من فراغ تشريعي لا خلاف عليه من ناحية دستورية. فالمجلس التشريعي صاحب السلطة التشريعية الأصلية في فترة الانتقال تم منع تكوينه، ومجلسي السيادة والوزراء الدستوريين انتهت سلطتهما التشريعية المؤقتة بإنتهاء فترة الأشهر المحددة لتكوين المجلس التشريعي.

المعلوم أن الدولة والقانون ظهرا معا في معرض التناقضات المستعصية على الحل بين شرائح المجتمع المتصارعة، حيث استخدمت القوى الحاكمة القانون كأداة لقمع المحكومين ، تعبر عن إرادة ومصالح هذه القوى. فالقانون كنشاط سياسي بالاساس، لا يمكن ان يحايد إجتماعياً . فهو لا يعدو حالة كونه تقنين لتفوق من يستطيع فرض ارادته على الآخرين، في إفصاح جلي عن طبيعة السلطة. ويتضح ذلك بتحديد من هو المشرع الذي سن القانون المعني.

وبتطبيق هذه القاعدة الراسخة على تعديل قانون جهاز الأمني الوطني الذي نشرته صحيفة السوداني ، نجد أنه مجرد تقنين لإرادة سلطة دولة بورتسودان غير الشرعية ، الناتجة عن انقلاب اكتوبر ٢٠٢١م الذي نفذته الحركة الإسلامية بالشراكة مع الجنجويد قبل الانقسام. ولسنا في حاجة للقول بأن هذا التعديل غير دستوري وباطل بطلانا مطلقاً، لأن الوثيقة الدستورية المعيبة التي تم إسناده لها، حددت على سبيل القطع السلطة التشريعية المؤقتة والدائمة في القترة الانتقالية، والسلطتين غير موجودتين والسودان يعاني من فراغ تشريعي لا خلاف عليه من ناحية دستورية. فالمجلس التشريعي صاحب السلطة التشريعية الأصلية في فترة الانتقال تم منع تكوينه، ومجلسي السيادة والوزراء الدستوريين انتهت سلطتهما التشريعية المؤقتة بإنتهاء فترة الأشهر المحددة لتكوين المجلس التشريعي، وما أصدره من تشريعات بعد تلك الفترة حتى قبل الانقلاب باطل وغير دستوري.

ناهيك عن أن المجلسين الحاليين غير دستوريين، كونهما زعيم الانقلاب الذي ليس لديه سلطة لتجميد مواد الوثيقة الدستورية المعيبة الحاكمة، ولا يتمتع بسلطة حل مجلس السيادة ومجلس الوزراء ولا تعيين بديل لهما، حتى يكون لهذين المجلسين سلطة التشريع واستخدام سلطة انتهت أصلا حتى للمجلسين الشرعيين الدستوريين. وبالرغم من أن هذا التعديل هو والعدم سواء من ناحية دستورية، إلا أنه يظل فعلا سياسيا حاكما بحكم وجود سلطة الأمر الواقع التي فرضت نفسها على شعبنا الصابر العظيم، ولا مناص بالتالي من مناقشته بوصفه أداة سياسية تعبر عن طبيعة السلطة الحاكمة.

والناظر للتعديل نظرة خاطفة لا تستدعي تركيزا او تستلزم قدرة على التحليل، يتضح له مباشرة أن الغرض من التعديل هو إعادة سلطة الاعتقال لجهاز الإنقاذ الامني نفسه الذي لم يتغير وما زال تابعا للحركة الإسلامية، مع توفير الحصانة اللازمة لعضو الجهاز لارتكاب ما يشاء من جرائم في مواجهة المواطن، وهذا يمثل إعادة كاملة للدولة البوليسية البغيضة التي خرجت ضدها الجماهير في ثورة ديسمبر المجيدة. فتعديل المادة (٥٠)، أعطى مدير الجهاز سلطة اعتقال المشتبه به لشهر وتمديد اعتقاله لثلاثة أشهر، دون رقابة او مساءلة أو إشراف قضائي، في استبداد كامل بهذه السلطة الخطيرة التي لا يجوز بالاساس منحها لهذا الجهاز.

والمادة (٣٧) من الوثيقة الدستورية المعيبة، تقصر مهام الجهاز على جمع وتحليل المعلومات فقط لا غير، وإعطاء الجهاز سلطة الاعتقال بالمخالفة لهذا النص يجعل هذا النص باطلا وغير دستوري من حيث المبدأ، وهو يفصح عن رغبة السلطة غير الشرعية الركون إلى عنف ناعم يقنن فرض إرادتها على الشعب ونسب ذلك زورا إلى الوثيقة الدستورية، التي برغم عيوبها الكثيرة لا تعطي هذه السلطة وجهازها الامني الحق في اعتقال المواطنين. ولا يصحح هذا البطلان الأصلي ما تم وضعه من نصوص تنظيمية لسلطة اعتقال، هي بالاساس غير دستورية وباطلة. وهو يأتي في إطار الحشو والتزيد التشريعي الذي لا طائل من ورائه، وهو لا يليق حتما بسلطة تشريعية حقيقية تعرف واجباتها.

أما المادة (٥٢-١) المعدلة فقد شرعنت اي فعل يصدر من اي عضو في الجهاز بحسن نية اثناء اداء أعمال وظيفته أو القيام بأي واجب مفروض عليه أو بموجب سلطة ممنوحة له بموجب القانون، واعتبرت ان ذلك لا يشكل جريمة. وفي هذا حصانة وحماية لمجرمي هذا الجهاز الذين عرفوا بسلوكهم المعادي لشعبنا، وشرعنة لجرائم الجهاز. ولا يقلل من ذلك القول بألا يكون الفعل أو الامتناع قد تم بسوء قصد أو إهمال، لأن محاكمة قتلة الشهيد أحمد الخير كشفت عن أن هناك عضو في الجهاز كانت مهام وظيفته هي الاغتصاب، وبكل تأكيد أنه كان يؤديها بحسن نية وبدون سوء قصد أو إهمال من وجهة نظر الجهاز!!.

والأسوأ من ذلك، أن تعديل المادة (٥٤) اعطى المدير سلطة احالة العضو مرتكب جريمة وفقا للقانون للمحكمة الجنائية فيما يستوجب ذلك. ولم تحدد المادة طبعا ما يستوجب ذلك، وتركت تحديده لمدير الجهاز غير الخاضع للرقابة، مما يعني أن إحالة أعضاء الجهاز المجرمين للمحاكم هو سلطة مطلقة لمدير الجهاز، ويؤكد أن أعضاء هذا الجهاز تم التصريح لهم بارتكاب الجرائم وإعفاءهم عمليا من المحاكمة امام القاضي الطبيعي باعتبار أنهم مواطنين مثلهم مثل غيرهم. لكن ثالثة الأثافي هي ما ورد بتعديل المادة ٧٦)، التي أعطت المدير سلطة تشكيل المحكمة في الجرائم التي تصل عقوبتها للإعدام بعد موافقة رئيس مجلس السيادة، في حماية مطلقة لمرتكبي هذه الجرائم الخطيرة من القضاء العادي المختص، ومخالفة صريحة لنص المادة (٣٠-١) من الوثيقة الدستورية المعيبة، التي تعطي سلطة التقاضي للسلطة القضائية وحدها لا غيرها، تؤكد عدم دستورية هذا النص وبطلانه دون شك.

ومفاد ما تقدم هو أن هذه التعديلات غير دستورية صادرة من سلطة فاقدةً للمشروعية ، بهدف تمكين نفسها وحماية استبدادها، لأنها مستيقنة أن مصيرها إلى زوال، وأن شعبنا العظيم سيلقي بها في مزبلة التاريخ. وقوموا إلى ثورتكم يرحمكم الله!! .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى