في وقت كان الشارع الروسي ينجز فيه انتخاباته الرئاسية، كان هناك من يخطط لاستبدال أرقام النتائج بأرقام عدد الضحايا والجرحى من المدنيين والأبرياء، عمل إرهابي جبان ضرب العاصمة الروسية موسكو، صور أعادت للأذهان ما حدث في مسرح موسكو في العام 2002، أكثر من عشرين عاماً مرت على عملية احتجاز رهائن في مسرح موسكو وما تلاها من عملية تحريرٍ للرهائن ما زالت حتى الآن تفاصيلها غامضة بما فيها ماهية الغاز الذي استخدمته أجهزة الأمن الروسية يومها للسيطرةِ على أكثر من أربعين إرهابياً شيشانياً ادعوا القيام بما قاموا به لأنهم كانوا يطالبون بانسحاب القوات الروسية من جمهورية الشيشان وإنهاء الحرب هناك، يومها طبقت القيادة الروسية الحكمة التي تقول: «علينا التفكير بمن سيعيش لا بمن سيموت» ونجحت فعلياً بتحرير العدد الأكبر من الرهائن رغم خسارة ضحايا.
اختلف الزمن لكن الصور المؤلمة لم تختلف، كيف سيحدث ذلك والمنفذ واحد يرتدي كلما شاءت إرادة مشغليه الثوب الذي يناسب الحدث؟ شيشان أم جبهة النصرة أم دولة إسلامية أم إخوان مسلمين لا فرق طالما أن الهدف من الإرهاب واضح: وسيلة قذرة لتحقيق أهداف لا تقل قذارة على دماء الأبرياء.
في الوقائع، كان لافتاً إعلان الجانب الأوكراني التبرؤ من العملية عبر بيانٍ للمتحدث الرسمي للرئاسة الأوكرانية، ميخايلو بودولياك، هذا التبرؤ بدا مفهوماً لأن الجانب الأوكراني يدرك قبل غيره أن التورط بهكذا أحداث ولو بشكلٍ غير مباشر، لا يفيد «القضية الأوكرانية»، على العكس فإن مجرد الصمت هو تورط غير مباشر مع شبه الإجماع الدولي على إدانة الحدث.
بذات السياق أعلنت ميليشيا روسيّة تقاتل مع الجيش الأوكراني التبرؤ من الحدث وعدم التورط به، لكنها وعلى طريقة «المعارضات السورية» دافعت عن الجاني بشكلٍ غير مباشر عبر اتهام السلطات الروسية بتدبير هذا الحدث، وهو ما كان يحدث في سورية مع بداية الحرب ومع كل عملٍ إرهابي جبان يقطف خيرة أبنائنا وبناتنا، لا ندري لماذا تتشابه كل المعارضات لحكومات الدول التي تناهض الولايات المتحدة بردة الفعل على الأحداث الإرهابية، هل هو تشابه في التفكير بالمصادفة أم تشابه بخطاب كاتب البيانات؟
لكن وللأمانة فإن هذا التبرير لم يكن فقط محصوراً بالميليشيا الروسية المذكورة، فالكثير من المحللين الغربيين رجحوا هذه الفكرة من دون إيراد أي دليل على هذا الكلام، وعندما نطلب دليلاً فنحن لا نتحدث مثلاً عن التقاط مكالمة بين مسؤول روسي وآخر يطالبه بها بتنفيذ العملية على جناح السرعة، لا نطلب كل هذا بل نتحدث عن دليل منطقي يُحاكي العقل ويثبت المصلحة الروسية باختلاق هكذا حدث في هذا الوقت الحساس إن كان لجهة الحرب في أوكرانيا أم لجهة اكتمال الاستحقاق الانتخابي؟
بواقعيةٍ تامة فإن الجواب بسيط، لا توجد مصلحة روسية بذلك بل على العكس هكذا حدث قد يهز ثقة المواطن بأجهزته الرسمية وقد يؤدي لحدوث تظاهرات احتجاجاً على الفشل الأمني قد تتطور إلى ما هو أبعد من ذلك، فأين المصلحة الروسية بذلك؟
أحد المعلقين الفرنسيين كان أكثر حنكة واطلاعاً، فتحدث مثلاً عن رغبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالتعمية على نتائج الانتخابات الأخيرة فأوعز لأجهزته الأمنية القيام بالحدث لأن القبضة الأمنية في روسيا لا يمكن اختراقها بسهولة!
في الحقيقة تبدو هذه الفرضية مثيرة للشفقة على مطلقيها، مبدئياً طالما لا يمكن خرقها بسهولة فإن احتمالات الخرق واردة ولو كانت صعبة، كذلك الأمر فإن الانتخابات الروسية التعددية تمت وفق الدستور والقانون الانتخابي الروسي، أن تعجبك صياغة القانون والدستور الروسي أم لا هذا شيء، تحديداً إن كل دولة تطبق الديمقراطية التي تناسبها وتناسب مجتمعاتها لأن الديمقراطية ليست وصفة جاهزة نطبقها على كل الدول بذات الطريقة، وادعاء اضطرار القيادة الروسية لهذا الحدث الدنيء للتغطية على الانتخابات هو شيء آخر، الأول سيكشف لنا حجم ما تمتلكه من تعبئةٍ وحقد ضد دولةٍ آمنة وهذا حقك مع ما يبثهُ الإعلام الأوروبي من بروباغندة يومية ضد الدولة الروسية وضد الرئيس فلاديمير بوتين تحديداً، أما الثاني فهو سيكشف لنا حجم ما تعانيه من غباء لا أكثر!
في الوقائع أيضاً كان لافتاً إعلان تنظيم الدولة الإسلامية تبني هذا الهجوم عبر بيانٍ لهم على تطبيق تيلغرام، البيان وصف الهجوم بالناجح مباركاً انسحاب كل العناصر المنفذة للهجوم بأمان، لكن البيان افتقد للأمر الأهم، أي دوافع العملية.
مما لاشك فيه أن الروس ومنذ زمن الاتحاد السوفييتي السابق خاضوا حروباً شرسة ضد الجماعات الإرهابية، من تنظيم القاعدة في أفغانستان وصولاً إلى الوقوف إلى جانب الجمهورية العربية السورية في حربها ضد الجماعات الإرهابية من داعش إلى النصرة، هذا الأمر قد يمنح الإرهابيين الدافع للانتقام وهذا مفهوم، لكن ما ليس مفهوماً هو إعلان الدولة الإسلامية تبني هذا الحدث وبهذه السرعة، ما يعني أن تعود الدولة الإسلامية في هذا الوقت تحديداً إلى الظهور ومن قلب موسكو في وقتٍ اقترب فيه العالم من نسيانها كما نسينا «فيروس كورونا»، فمن هو صاحب المصلحة بإعادة التنظيم إلى الواجهة؟
إن كانت وجهة النظر من العمليات الإرهابية لا تتجزأ على الأقل من الناحية الأخلاقية، فإن الحرب على التنظيمات الإرهابية أو تقديم المعونة لها بأي وسيلة كذلك الأمر لا يتجزأ، لكي تتضح هذه المقاربة فعلينا التدقيق ملياً بالهجمات الأميركية التي طالت مواقع للجيش العربي السوري والقوات الرديفة خلال الشهرين الماضيين، ضربات كانت بمعظمها مؤلمة كلفتنا خسائر فادحة، فإن التحليل البسيط لحدوثها كان سعياً أميركياً لإعادة فتح الطرقات أمام تنظيم الدولة للعودة إلى الساحة من جديد في الصحراء السورية، قد يكون الهدف الأميركي هنا من إعادة التعويم مركباً، كإعادة تبرير احتلالها لمناطق من الشرق السوري أو حتى التعمية على مستقبل أحداث غزة باختلاق أحداثٍ ومناطق ساخنة جديدة، بذات السياق جرى إعلان تنظيم الدولة تبني الحادث في موسكو.
هناك من يريد إعادة تعويم داعش في وجه الروس لكن هذا التعويم دونه الكثير من الأسئلة، لماذا لا تتم مهاجمة المصالح الأميركية والبريطانية لكونهما أيضاً «شاركا» في الحرب على داعش؟ لماذا تكون أرض الجهاد بالنسبة لهذه التنظيمات هي خارج المدى المجدي لأولى القبلتين؟ هذه الأسئلة قد لا يبدو الجواب عنها صعباً لكن بذات الوقت يبقى السؤال الأهم: ماذا لو كان بين المنفذين عدد من إرهابيي الإيغور؟ عندها تكون هذه العملية أشبه برسالة متعددة الأقطاب، لكن من الواضح أن ما قام به الأميركي من خلال هذه العملية هو استغلالها بعد حدوثها وليس التورط المباشر بها، وهو أسلوب أميركي متجدد يستفيد من الأحداث بما يتوافق مع توجهاته بمعزلٍ عن مشاركته المباشرة بها، على هذا الأساس يمكننا الوصول إلى الخلاصة التالية:
مما لاشك فيه أن الحادث هو ضربة موجعة للدولة الروسية والهيبة الأمنية التي تتمتع بها الأجهزة الأمنية هناك، لكن بذات الوقت ومن دون استعجال لنتائج التحقيقات الروسية فمن الواضح أن الحادث يندرج تحت بند «الذئاب المنفردة» التي تتعاطى وفق ردات الفعل المستند إلى مرجعية متطرفة، هذا النوع من الحوادث لا يمكن بأي حال من الأحوال التنبؤ به أو حتى منعه لأن الدائرة المحيطة بالحدث تبدو منغلقة إلى حدٍّ بعيد ولدينا الكثير من الأمثلة عن مثل هذا النوع من الحوادث، كحادث المسجد في نيوزيلندا الذي نفذه المجرم بريون تارانت عام 2019.
كذلك الأمر حادث «باتاكلان» 2015 الذي ضرب العاصمة الفرنسية باريس على بعد أمتارٍ من الرئيس السابق فرانسوا هولاند، وغيرها من الحوادث التي لم تستطع القبضة الأمنية منعها وحدثت لتحصد ضحايا، لكن الفرق الوحيد في هذه الحوادث هو في التوصيف والاستغلال، فعلى سبيل المثال لا الحصر فإن هناك من تحدث عن تأثر «صلاح عبد السلام» أحد أهم المخططين والمنفذين لحادث الباتكلان بتنظيمات متطرفة في سورية وتحديداً جبهة النصرة التي هي فرع من القاعدة، بل هناك مصادر أمنية أكدت وجود ثلاثة إرهابيين على الأقل من بين الثمانية الذين نفذوا العملية قاتلوا في سورية مع تنظيمات إرهابية، هذه التنظيمات يسميها الإعلام الغربي بالتنظيمات الإرهابية وهي كذلك فعلاً فقط عندما تقوم بحدث يتعارض مع مصلحته، لكنه من ناحيةٍ ثانية يسميها «المعارضة السورية المسلحة»! عندما يتعلق الحدث بالداخل السوري، ليبدأ استغلال الحدث بالطريقة التي تناسب توجهاتهم.
إن هذه الازدواجية في المعايير هي السطر الأول في كتاب نمو وازدهار الذئاب المنفردة لأنها تصبح وسيلة بيد من يظن بأنه ناجٍ من سعارها، المبدأ لا يتجزأ، الإرهابي حتى لو نفذ عمليته في الداخل الأميركي تحت أي ذريعة هو إرهابي، الرحمة للضحايا وكامل العزاء لعائلاتهم والدولة الروسية.