جاء الإعلان عن التوصل إلى تفاهمات بين حركتي فتح وحماس حول إدارة قطاع غزة متأخرا كثيرا، فالاجتماعات التي عقدت في القاهرة قبل أيام وقيل إنها أنهت الإشكاليات الرئيسية بين الجانبين كان يمكن أن تصبح لها قيمة كبيرة منذ شهر أو أكثر في خضم الاهتمام الإقليمي والدولي باليوم التالي لوقف الحرب في غزة، ومحاولة إيجاد صيغة لإدارة القطاع تقبل بها إسرائيل.
لكن التفاهمات الجديدة أتت وسط اشتعال الموقف في سوريا، إذ أعلنت حماس قبولها بمقترحات مصرية في توقيت يعتريه الغموض، وهذا يعني تفويت الفرصة على التطبيق العملي لما تم التوصل إليه أخيرا، فلا معنى للإدارة وسط عدم اكتراث من مجتمع دولي بات مهتما بسوريا والمصير الذي ينتظرها أكثر من غزة.
ضيّعت الحركتان وقتا طويلا لفهم المشهد الإقليمي وما يعتريه من تقلبات وتعقيدات، وما ينتظره من ترتيبات لن يكون في صالح القضية الفلسطينية، ولم يُحسن كلاهما قراءة النتائج الناجمة عن حرب غزة وما تلاها من حرب قاسية على حزب الله اللبناني، وتعاملا معهما بالطريقة التقليدية، حيث تقوم إسرائيل بالانتقام من المقاومة لفترة زمنية قصيرة، ثم يعود كل طرف إلى جدول أعماله من المناكفات والحسابات الضيقة والحفاظ على مكاسبه الضيقة، ولم تنتبه فتح إلى ما يحاك في الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما لم تستوعب حماس أن حرب غزة مختلفة هذه المرة عن كل الحروب المتقطعة التي خاضتها ضد إسرائيل.
ولا أعلم هل الوقت سوف يسعف الحركتين لتنفيذ تفاهمات القاهرة بينهما أم لا، لكن من المؤكد أن إسرائيل نجحت في استثمار عملية طوفان الأقصى، فلسطينيا وإقليميا، إلى أبعد مدى، وبدأنا نفهم ممانعات رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في الابتعاد عن عقد صفقة لتحرير الأسرى كلما اقترب نضجها، فالرجل كان يخطط للإجهاز على قوى المقاومة تدريجيا، والتخلص من المنغصات التي سببت قلقا لبلاده.
بدأ نتنياهو بحماس ثم انتقل إلى حزب الله، والآن ينتظر تقطيع أوصال سوريا بأيدي جهات أخرى، إلى أن ينفرد بإيران قريبا، وبين هذه الحلقات لم يتهاون في زرع المزيد من الأشواك بالضفة الغربية لتبدو السلطة الفلسطينية التي تقودها فتح بلا سلطة حقيقية، ولن تكون هناك قيمة لوصولها إلى غزة والتحكم في إدارتها بموافقة حماس أو دونها.
حدثت التفاهمات بين فتح وحماس في وقت غاية في الحساسية، ولن تتمكن القوى الإقليمية والدولية من مباركة خطوة تم انتظارها فترة طويلة، ولن تجد رفاهية لدعمها ماديا وسياسيا، لأن الخطوة مجردة بلا وزن لها على الأرض.
وكي تصبح ذات أهمية ويمكن تنفيذها لا بد من مساعدة خارجية كبيرة لها، تتعلق بالتوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى ووقف إطلاق النار، ثم التوصل إلى قواسم مشتركة مع إسرائيل حول الوضع العام في غزة وآليات انسحاب قوات الاحتلال من القطاع والمدة الزمنية المطلوبة، والتنسيق من أجل إدارة معبر رفح، فضلا عن ملف إعادة الإعمار الذي يتطلب إنفاقا دوليا سخيا، وكل ذلك بدأ يتبخر مع وضع سوريا على جدول الأعمال الجديد، لتتقدم على لبنان وغزة، وتصبح تفاهمات فتح وحماس بالقاهرة في مهب الريح.
يصعب أن تتمكن الحركتان وكل القوى المعنية، وفي مقدمتها مصر التي دفعت نحو التفاهم بينهما وتعظيم دور السلطة الفلسطينية، من تطبيق الاتفاق الأخير، والذي استغرق الوصول إليه وقتا طويلا وسلسلة معقدة من الاجتماعات.
لم تدرك فتح وحماس أن المسألة ليست رفاهية، ربما تعتقد الثانية أن ما يجري في سوريا يصب في صالحها، باعتبار أن المتصدرين للمشهد هناك ومن زحفوا نحو حلب وحماة وحمص وغيرهم تحكمهم توجهات إسلامية ويقف خلفهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لكن هذا وهم كبير، لأن إسرائيل والولايات المتحدة اللتان وقفتا وراء تصفية قدرات حماس وحزب الله لن تسلما سوريا لرفاقهما من ذوي المرجعية المتشددة، وما تقوم به أنقرة ضد النظام السوري هو في إطار لعبة مصالح وتوزيع أدوار مع قوى إقليمية ودولية، يسعى كل منها لتحقيق أهدافه في المنطقة.
اقرأ أيضا| تأثير حركة حماس على سكان غزة منذ تأسيسها حتى الآن
ويشير التركيز على ما يجري في سوريا إلى أن إسرائيل تريد هندسة الأوضاع في غزة بالطريقة التي تتواءم مع أغراضها البعيدة، وأنها غير معنية بتفاهمات فتح مع حماس، ولن تجد من يتصدى لها لفرملة خطتها الرامية لتقطيع أوصال القطاع، وربما عودة الاستيطان في الجزء الشمالي منه الذي شهد حركة واسعة لتغيير بنيته الجغرافية، بالتالي لن تكون هناك جدوى لتفاهمات القاهرة التي جاءت بعد معاناة.
فكلما أبدى طرف مرونة أظهر الآخر خشونة، وهكذا ضاعت سنوات طويلة في التراشقات والتجاذبات والانقسامات. وفي اللحظة التي اقتربت فيها الحركتان، ولو شكليا وتحت ضغط الظروف الإقليمية، من التقارب كان الوقت في غير صالحهما بالمرة، ويحتاج إلى تفكير مختلف، لأن المفاتيح لم تعد في غزة أو الضفة الغربية أو في يد فتح أو حماس، ما يعني أن تفاهمات القاهرة قد تصبح بلا أهمية تقريبا.
في كل المرات السابقة، كنا نتحدث عن اتفاقات بين الفلسطينيين لا تتعدى كونها حبرا على ورق، فمجرد انفضاض الاجتماعات والتوقيع على نتائجها في القاهرة أو غيرها وعودة قادة الفصائل إلى أماكن إقاماتهم في عواصم مختلفة، كان ما تم الاتفاق عليه يتبخر سريعا، ولا أحد يلتزم به، والآن عندما بدت هناك جدية للتنفيذ جاءت الضربة من جهات متباينة، لأن الفصائل الفلسطينية، وعلى رأسها فتح وحماس، فكرت بطريقة تتجاوز البعد الوطني، وكان الإصرار على التمسك بالأفكار الحركية سابقا، ولذلك فقدتا الحاضنة الشعبية في الداخل، بعد سلسلة من المماحكات لم يثبت أحدهما فيها نجاعة سياسية تتناسب مع طبيعة التطورات المتلاحقة.
أخشى أن تكون الاجتماعات التي تمت في القاهرة وتمخضت عن تفاهمات عامة لإدارة قطاع غزة هي آخر لقاءات مباشرة تعقد بين فتح وحماس في الوقت الراهن، لأن التحركات التي تجري في سوريا سوف تجذب إليها اهتمامات غالبية الدول المعنية بالقضية الفلسطينية، على غرار ما حدث قبل نحو عشر سنوات، فعندما انطلقت الثورة والاحتجاجات والمعارك في سوريا غابت تقريبا هذه القضية.
وبعد أن هدأت نسبيا مؤخرا استردت فلسطين نفسها السياسي قليلا، لكن لا أحد توقع أن تعود الأوضاع في سوريا إلى هذه الصورة المأساوية التي تهدد وحدتها، ما يعني أن القضية الفلسطينية ستدخل فترة استراحة جديدة قد تصبح تداعياتها أشد وطأة من الاستراحة السابقة، لأن ما سيترتب عنها هذه المرة خطير.