سياسة الاغتيالات التي تمارسها إسرائيل، والتصعيد العشوائي للعنف والإرهاب من قبلها يهدد الوضع الأمني الإقليمي. وستؤدي أفعالها إن استمرت على هذا النحو إلى توسيع نطاق الصراع بالمنطقة، على نحو لن يستطيع أحد السيطرة عليه أو تقليل تداعياته إذا تحول إلى حرب شاملة.
احتمال انفجار الوضع في أية لحظة على الجبهة الشمالية مع حزب الله اللبناني نحو حرب واسعة مع إسرائيل، أصبح مرجحا وممكنا جدا، مع أن إسرائيل التي تقصف لبنان من الجو بالسلاح الأمريكي، تدرك أنها ستتكبد خسائر فادحة لو دخلت حربا برية مع المقاومة في الجنوب اللبناني.
وأمريكا التي تظهر أنها تبذل جهودا لتجنب توريطها في حرب إقليمية، ولمنع إسرائيل من التسبب باندلاع حرب شاملة غير مسبوقة في منطقة الشرق الأوسط، وكأنها لا تعلم بخطوات تل أبيب وعملياتها العسكرية هنا وهناك، إن كانت لا تعلم، وهي المزود بالسلاح والداعم المطلق لكيان الاحتلال، فهنا تكمن الفضيحة في تلاعب نتنياهو التام بحكومة بايدن، واستغلاله ضعف رئيس أمريكي منتهٍ وشبه مستقيل. بمعنى أنّ الإدارة الأمريكية الحالية عاجزة عن إدارة الموقف، تجد نفسها تتبع خطوات رئيس حكومة الاحتلال، الذي يصر على ضرورة مواصلة الضغط العسكري.
وإن كانت تعلم بخطوات إسرائيل التصعيدية، فهي دون شك تشارك في إشعال المنطقة. وهو المتعارف عليه، وذاك ما عودتنا به إلى جانب كيانها الصهيوني الذي تردّد لازمة «حقه في الدفاع عن نفسه» وكأنّ على الآخرين أن يقبلوا الأمر وليس لديهم الحق ذاته في الدفاع عن أنفسهم من العربدة الصهيونية.
أصبح واضحا انحسار وتدهور الديمقراطية الغربية المعاصرة، وإلى الآن يدفعون نحو خلق الفوضى والحروب ومنع الشعوب من تقرير مصيرها، والانعتاق من ربقة الاستعمار وأشكال الاستيطان
هذه المرة قد يكون الأمر استراتيجيا أوسع، وفيه مخطط تدريجي لاستهداف إيران عسكريا، ولا يهم فترة الانتقال السياسي والمراحل الانتخابية، فالمجامع العسكرية ولوبيات الضغط ومؤسسات الدولة العميقة، هي التي تتحكم بالسياسات، وتدفع إلى مثل توترات كهذه، وصدام عسكري يخدم مصالحها. استشهاد القائد العسكري في حزب الله فؤاد شكر، ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، على التوالي، ثم عمليات إسرائيل التصعيدية والقذرة بتفجير أجهزة الاتصال بطريقة لم تبالِ بها بالمدنيين، وهي جريمة في القانون الدولي والإنساني.
ومن ثم عمليات الاغتيال الجديدة ضد قيادات حزب الله، كلها خطوات تكرس من خلالها إسرائيل الفوضى مرة أخرى. ما يعني أن الشرق الأوسط يسير بشكل متسارع نحو الدمار الشامل. المنطقة التي لم تتخلص من شبح الحرب ودائرة العنف بسبب مشاريع أمريكا وأطماع كيانها الصهيوني المجرم الذي لا يأبه بأي قوانين دولية أو إنسانية.
وفي سياق العدوان الذي تأتيه إسرائيل، لن تتجاهل إيران الإهانة والفشل الأمني هذا مؤكد، وإن تأخر ردّها، حيث أهينت عندما تجمع لديها عدد من كبار المسؤولين في ظل توتر أمني. وفي الوقت الذي كان رد إيران محسوبا على مقتل ضباطها في دمشق، وكذا رد إسرائيل على الرد، لا يمكن التكهن بطبيعة هذا الرد وتداعياته هذه المرة، وقد أصبح ضروريا الآن لاستعادة التوازن بين الكيان الصهيوني ومحور المقاومة المدعوم من طهران، رغم أنّ الفوضى هي العنوان الأكبر لكل ما يحدث وما سيحدث، ولا أحد يمكنه الانتصار بسرعة.
نتنياهو يريد أن يبقى العدوان هنا وهناك رغم فشله، فيهرب إلى الأمام بالقتل والتدمير والاغتيالات على أكثر من جهة ومكان. والعالم يرى أفعال إسرائيل التي تعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي، وتقويضا واضحا لمساعي تحقيق السلام في المنطقة. ورئيس حكومة المتطرفين يرغب في أن يشعل المنطقة ليهرب من ملاحقات داخلية سياسية وقضائية، لأنه فشل في تحقيق أهدافه. الآن هو يعتمد استراتيجية «الحرب المستدامة» التي تحتاج الدعم الأمريكي.
وعوض تخفيف الجبهات يزيد في تصعيد المواجهة وتوسيع الساحات، رغم أنّ مساحات الصراع المباشر ليس من السهل أن تُفتح بعد، رغم التغير في معادلة الردع بين إسرائيل وإيران تحديدا، والتحول من الصبر الاستراتيجي إلى الردع الأكثر نشاطا من جهة طهران، وهو أمر مرجح أن يتضح أكثر في الفترة المقبلة، ولن يقف الأمر عند حزب الله اللبناني.
اقرأ أيضا| 5 سيناريوهات تنتظر إسرائيل في لبنان
أدّى طرد اليهود من أورشليم على يد الرومان سنة 130م إلى إقامتهم في حالة شتات، وتاليا في وضع أقلّية دائمة حتى عام 1948 عند افتكاك فلسطين وتسليم بريطانيا أرضا عربية لليهود. النسب المفارق منعدم الجذور، هو ذاته المتصل تاريخيا ووثائقيا بأمريكا، التي لا تمتلك بنية قومية، ولعلّه السبب في سعيها إلى تقويض كلّ البُنى القومية ذات الحضور في التاريخ عبر انتقامها من الجميع، ليس العرب والمسلمين فقط، فهي تضمر الكراهية لكلّ القوميات بما فيها أوروبا.
لقد بدا واضحا أنه في دعمها لحرب الاستنزاف الروسية الأوكرانية، التي تزعزع أوروبا عسكريا واقتصاديا، تطمح الإدارة الأمريكية إلى خطة مارشال ثانية، تخرج بفعلها منتصرة اقتصاديا على حساب الجميع بما في ذلك حلفاؤها التقليديون. وبالتالي لا تأبه للضرر الحاصل الذي سيكون له التأثير الفادح على الاقتصاديات الهشة والدول الضعيفة.
والتخبط في المجد الذاتي المغرور رغم حقيقة تراجعها أمام القوى العالمية الصاعدة والمنافسة على صراع الريادة والتفوق، يجعل أمريكا تتجاهل منظور نموذج الارتقاء والانحطاط، الذي يتضح من خلاله تاريخ كل الامبراطوريات تقريبا، على أنّه مسيرة اتصفت بمرحلة ارتقاء قصيرة، ولكنها ديناميكية ومرحلة تدهور طويلة المدى. وللولايات المتحدة الأمريكية نصيب من هذا بكل تأكيد نتيجة انحرافاتها التاريخية غير المبررة بأي شكل قانوني وليس هناك اعتبار إنساني أو مقياس أخلاقي. وسيكون لكيانها الصهيوني الذي تدعمه حظه من التقهقر والاندحار، وهو مصير كل مستعمر غاشم.
يحدث كل هذا التصعيد العسكري والخطر الأمني إقليميا ودوليا، في وقت يتجلى فيه عجز الأمم المتحدة يوميا على نحو مهين، خاصة أمام معاناة غزة الإنسانية، ناهيك من أزمات السياسة الداخلية في أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومعظم دول العالم.
لقد أصبح واضحا انحسار وتدهور الديمقراطية الغربية المعاصرة. وإلى الآن يدفعون نحو خلق الفوضى والحروب ومنع الشعوب من تقرير مصيرها، والانعتاق من ربقة الاستعمار وأشكال الاستيطان وسطوة الإمبريالية وعبدة المصالح. ازدواجية وأخلاقيات محل شكوك عندما يشاهد العالم كيانا يقتل ويرتكب المجازر في غزة وغيرها لمدة أشهر بمباركة غربية، تلك هي حضارتهم المتقدمة و»مبادئهم الراقية جدّا».