أبلغ سيد واشنطن الجديد دونالد ترامب أن مفاتيح دمشق باتت بيد الرجل التركي الذي يبحث عن “هدوء تام” بالبوابة السورية بعد نهاية حكم الأسد، ترى فيها تركيا فرصتها لشن هجوم عسكري لإنهاء التجربة “الكردية” على حدودها التي تقلق أمن قومها منذ 2012.
فالتركي الذي يستفيد اليوم من سيطرة المقربين منه “هيئة تحرير الشام” على زمام الأمور بـ “سوريا الجديدة”، لن يسمح بتفويت فرصة تصفية “قوات سوريا الديمقراطية” المقرب من “حزب العمال الكردستاني” في ظل وضع جغرافي وسياسي ملاءم لحسابات أردوغان الخاصة في سوريا.
هذا الصراع المؤجل بين “التركي والكردي” في الملعب السوري قد يفاقم الأزمة الإنسانية في الشمال السوري بحسب ما أنذرت به عواصم العالم، وقد يعطل مسار العملية السياسية في البلاد- مسار يتلمس خطاه بخجل بعد 14 عاما من صراع دام أنهك البلاد والعباد.
التجربة “الكردية”
“قوات سوريا الديمقراطية” قضمت قرابة ثُلث مساحة سوريا، منذ 2012، بما فيها كامل شرق الفرات، ومناطق منبج، وعفرين، والأحياء الكردية في مدينة حلب، على امتداد سنوات، بخاصة مع تركيز النظام السوري آنذاك بحربه على مناطق أخرى بالبلاد.
لم تفوت المكونات الكردية بسوريا قلب الوضع السياسي المفكك بالبلاد لصالحها، فأسسوا “وحدات حماية الشعب” لتضم بعدها الكثير من الفصائل العربية وتنضوي تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” المدعومة أمريكيا وقادت الحرب ضد تنظيم “داعش” بشمال وشرق سوريا.
ورقة “داعش” والنفط تعتمدها “قسد” كأوراق ضغط رئيسي للتفاوض على دورها في المشهد السوري الجديد، فمع سيطرتها على 20% من الأراضي السورية، والتي تضم معظم حقول النفط والسجون التي تضم الآلاف من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي من جهة، وسيطرتها على حقول النفط، التي تموّل عملياتها العسكرية والإدارية عبر عمليات بيع النفط.
فأكراد سوريا لا يعيشون أفضل حالاتهم بعد سقوط الأسد، فهم أمام خيارات صعبة لتأمين مكاسبهم قبل ترتيب الوضع الداخلي بدمشق الذي تقوده “تحرير الشام” الموالية لأنقرة، وتثبيت “الإدارة الذاتية” أو “روج آفا” كمشروع كردي نشأ عام 2014 بشمال شرق سوريا.
أنقرة التي لا تفوت الحديث عن أن “قسد” هي ذراع حزب العمال الكردستاني المصنف كـ “منظمة إرهابية” والذي يخوض تمردا مسلحا ضدها منذ الثمانينات، تزايدت حدة خطابها صوب الأكراد بعد طي صفحة الأسد من حكم سوريا، ملوحة بالورقة العسكرية إلى حين نزع سلاح المقاتلين الأكراد، ليضع الشمال السوري على عتبة حرب أخرى تزيد من ضبابية المشهد السوري.
“قسد”.. خارج الأجندة الأمريكية
خشية الرجل التركي من هلال كردي على طول حدوده الجنوبية، والذي قد يلهم أكثر من 20 مليون كردي يعيشون داخل تركيا للتحرك في اتجاه مماثل، يُعجل من سعي أنقرة لإنهاء هذه التجربة التي تؤرق مضجع “الباب العالي” خوفا من نيلها الشرعية من النظام السياسي الجديد في سوريا، وهي أحد الفرضيات المطروحة باتجاه فدرالية جغرافية تحافظ على وحدة الأراضي السورية مع إدارة ذاتية محدودة.
في ظل التغيرات بالميدان السوري، فإن قسد التي تستمد شرعيتها من “الأمريكان” الذي أمنوا لها موطئ قدم شمال شرق سوريا، باعتبارها الحليف الأهم بحقبة محاربة تنظيم “داعش” قد تتغير الأجندات مع ما يظهر من تنازل أمريكي “للملف السوري” لفائدة الأتراك.
إقرأ أيضا : كيف أعاد “بايدن” إنتاج سياسات “ترامب” ضد المهاجرين؟
فرجل البيت الأبيض العائد دونالد ألمح بإشارات توحي بالتراجع التقليدي لدعم أكراد سوريا، وهو ما يفهم من تصريحه الأخير بـأن ما يحدث بـ “أرض الرمال والموت” بعد هرب الرئيس المخلوع بشار الأسد لم يعد ضمن أجندات واشنطن في محاولة منه لتحقيق توازن بين الانسحاب العسكري وضمان المصالح الإستراتيجية الأمريكية، مع الحد من التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط.
إشارات التخلي عن “قسد” وتجربتها تعززت بقوة مع تصريح باربرا ليف مساعدة وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأدنى بقولها إن الظروف التي دفعت الأكراد في شمال شرق سوريا إلى الدفاع عن أنفسهم تغيرت بشكل كبير للغاية، ليجد الأكراد أنفسهم في قلب لعبة التوازنات الدولية بين الأتراك والأمريكان قبل ترتيب المشهد السوري.
فالأكراد يدركون أنهم جُرُوا إلى “خانة اليَك” مع تغير الوضع الجغرافي والسياسي الذي كان متوفرا لهم في المراحل السابقة، وعليه لن يقبلوا بسهولة بالأمر الواقع الذي يفرض عليهم الهيمنة السياسية والأمنية من ثنائية الإدارة الجديدة بدمشق والمد التركي بسوريا بعد سنوات الدم دفعوا فيها عشرات الآلاف من الضحايا في مواجهة التنظيمات الإرهابية.
حسابات الأكراد الباحثة عن حقوقها في مشهد سوري متداخل تتقاطع مع تعمق النفوذ التركي في الساحة السورية بعد خروج الإيراني والروسي من بلاد الشام، في ظل بحث سيد أنقرة عن تثبيت نفوذ بلاده كقوة إقليمية عبر بوابة دمشق، لتزيد المواجهة المحتملة بينهما من خلق أرضية حرب مشتعلة يمتد لهيبها إلى أغلب المناطق السورية.