كما في كل حدث سياسي أو عسكري كبير، دارت الكثير من التقييمات لسقوط النظام السوري (السابق) حول تصنيف الأطراف المختلفة، المحلية والإقليمية والدولية، بين كاسب وخاسر، وكانت تركيا بطبيعة الحال في مقدمة الكاسبين.
السبب الواضح أن تركيا كانت الوحيدة بين الدول المنخرطة مباشرة في سوريا التي بقيت على دعمها للمعارضة وعلاقات الحد الأدنى مع الأسد (يضاف لذلك قطر عربيا)، وبالتالي فسقوط الأخير الذي رفض دعوتها لتطبيع العلاقات، مكسب لها.
يمكن القول إن هذه النظرة مفتاحية لقراءة نتائج “ردع العدوان” وما تلاها من تطورات من زاوية تركية، إذ يصب ذلك في صالح تركيا في توازن القوى والنفوذ مع الأطراف الإقليمية الأخرى وفي مقدمتها إيران وروسيا، فالأولى تكاد تكون خرجت تماما من سوريا والثانية تنتظر تشكيل حكومة مستقرة لبحث مصير قاعدتيها الجوية والبحرية.
يضاف لذلك المكاسب الاقتصادية والتجارية المتوقعة من تغير النظام ووصول أطراف ذات نظرة إيجابية للعلاقات مع تركيا، والتي كانت شريان حياة للشمال السوري لسنوات، ما يعيد دمشق مرة أخرى شريكا تجاريا رئيسا لأنقرة وبوابة لها نحو العالم العربي.
ومن زاوية أخرى فإن ما حصل قد فتح الباب واسعا لعودة السوريين من تركيا، لا سيما إذا ما استقرت الأوضاع. وقد كانت “العودة الطوعية والكريمة” إحدى أهم محاور الخطاب الرسمي التركي منذ سقوط الأسد، لدرجة أن أردوغان أضاف على ذلك الترحيب “بمن أراد البقاء”، في دلالة واضحة على تراجع الضغوط الداخلية على الرئيس وحكومته وحزبه بسبب اللاجئين، فضلا عن دلالات تسويق هذا “الإنجاز” داخليا.
كما أن عملية “ردع العدوان” حققت لتركيا مكاسب ذات طابع استراتيجي فيما يرتبط بأمنها القومي، حيث أطلق “الجيش الوطني السوري” في ظلالها عملية “فجر الحرية” وأخرج قوات سوريا الديمقراطية “قسد” من تل رفعت ثم منبج، بعد سنوات من مطالبة أنقرة بخروجها منهما وتلويحها بعملية عسكرية بخصوصهما. وقد استمر تقلص مناطق سيطرة “قسد” بإعلان “إدارة العمليات العسكرية” عن إخراجها من مدينة دير الزور.
إقرأ أيضا : هل ينجح ترامب في التحالف مع رجال الأعمال وأقطاب التكنولوجيا؟
كل ما سبق من مكاسب كبيرة لتركيا قد لا يرقى لأهمية بُعد آخر قلّما يلتفت له، وهو أن سوريا المستقبلية ستُبنى على الأغلب وفق نموذج مختلف عن نظام الأسد، ويكون ذلك عادة في الدول الناشئة أو التي تخرج من حرب كبيرة أو ثورة مسلحة باتخاذ نموذج قائم من الدول الرائدة أو المقربة أو ذات النفوذ، ويبدو أن تركيا ستكون ذلك النموذج التي ستُبنى المؤسسات السورية المستقبلية على غراره.
فتركيا هي الدولة الداعمة للمعارضة السياسية والعسكرية ومحتضنتها على مدى سنوات، وتملك حدودا مشتركة وعلاقات طيبة، وهي التي ساهمت -بدبلوماسيتها بالحد الأدنى- في تذليل العقبات أمام عملية “ردع العدوان” وإقناع روسيا وإيران بعدم التدخل عسكريا لدعم الأسد، وهو ما ساعد على نجاح العملية بوقت أسرع ودون خسائر ودماء كبيرة، على ما جاء على لسان وزير خارجيتها هاكان فيدان.
وهذا كذلك ما يفهم من كون تركيا السباقة لزيارة “سوريا الجديدة” عبر وفد رفيع ترأسه رئيس جهاز استخباراتها إبراهيم كالن، والذي صلى في الجامع الأموي متوجها له في سيارة يقودها أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني سابقا) بنفسه، في إشارة ودلالة ورسالة في عدة اتجاهات. كما يتأكد ذلك من إعلان وزير الدفاع التركي يشار غولر عن استعداد بلاده لتقديم الدعم العسكري لدمشق في حال طلبت الإدارة الجديدة منها ذلك.
وبالتالي يمكن توقع أن تلعب أنقرة دورا محوريا في البعد العسكري والأمني مع سوريا، بما في ذلك التسليح والتدريب وإعادة الهيكلة وإبرام الاتفاقات العسكرية والأمنية. ومن البديهي أن ذلك يضيف لقوة تركيا وأوراقها في المنطقة، ويرجح كفتها نسبيا أمام عدة أطراف، فضلا عن تقوية أوراقها إزاء الإدارة الأمريكية المقبلة.
بالنظر لكل ما سبق، تبدو مكاسب أنقرة كبيرة وسريعة وطويلة المدى، وهذا صحيح، ويتولد انطباع أنها توجت مسار 13 عاما من موقفها من الثورة السورية بـ “نصر” لا خسائر فيه ولا تحديات أمامه، وهذا غير دقيق.
ذلك أن أول التحديات الماثلة أمام أنقرة الانطباعُ الذي تولّد لكثير من الأطراف بأنها وقفت خلف العملية وأدارتها، وأنها بالتالي من أسقط النظام عبر “إدارة العمليات العسكرية”، وهو ما نفته أنقرة مرارا، معيدة الأمر للأسباب الداخلية السورية، لتحصر دورها في العمل الدبلوماسي بعد انطلاق العملية وتدحرج أحداثها السريع وبهدف تقليل الخسائر.
إذ أن من شأن هذا الانطباع أن يوتّر علاقات أنقرة مع عدة أطراف ليست سعيدة بالضرورة بما حصل، كل لأسبابه، وفي مقدمتها روسيا وإيران وبعض الدول العربية. فقد ركز الخطاب الإعلامي في كل من موسكو وطهران في الأيام الأولى للعملية على فكرة “خديعة” تركيا لهما، ووصل الأمر بالمنظّر الروسي المعروف ألكسندر دوغين لتهديدها بدفع الثمن، فضلا عن عودة خطاب بعض الدول العربية للتحذير من “الأطماع التركية”.
من جهة ثانية، ورغم الخطوات المشار لها بخصوص قسد، إلا أن ما حصل قد يرتد بشكل سلبي، من حيث تثبيت مناطق سيطرتها الحالية، وتحولها لشريك محتمل في رسم مستقبل سوريا، وبما يمكن أن يذكي مخاطر التقسيم أو الفدرلة، خصوصا أن مسار العمليات توقف بعد دمشق إلى حد كبير ولا يبدو أن منهج التعامل مع قسد سيكون نفسه المنتهج مع الأسد.
ولذلك، فقد ركز خطاب وزير الخارجية فيدان والدفاع غولر (وغيرهما) على أن أولوية أنقرة في القضية السورية مستقبلا إنهاء “ملف الإرهاب” فيها وإخراج حزب العمال الكردستاني منها، مرجحين أن يتم ذلك عبر الإدارة الجديدة التي تشاطر تركيا نفس التوجهات، وملوّحين باضطرار الأخيرة لفعل ذلك بنفسها.
ولا شك أن هذا مقلق لأنقرة مع مجيء ترامب الذي لم تتضح بعد معالم سياسته السورية، التي تراهن على أن تغيير المعادلات بهذا الشكل قد يساعدها على إقناعه ثانية بالخروج من سوريا ووقف دعم قسد. بيد أن خطابه لم يمنحها الثقة تماما، وهو ما يترك الباب مواربا على خطوات دراماتيكية كعملية عسكرية في شرق الفرات، أو حلول وسطى من قبيل إعادة هيكلة و”سورنة” قسد وفك ارتباطها بالعمال الكردستاني.
أيضا، ثمة تحد كبير أمام القيادة الجديدة لسوريا، وهو ضمان الاستقرار ومنع سيناريو الاقتتال الداخلي و/أو الفوضى، والذي إن حصل ستكون له تداعيات سلبية على كل من دمشق وأنقرة أمنيا وسياسيا واقتصاديا، وهو سيناريو محتمل وينبغي التحوط له والعمل على منعه وفق ما جاء على لسان فيدان نفسه.
وأخيرا، تبدو “إسرائيل” في مقدمة المستفيدين مرحليا من التغير الحاصل في دمشق والذي استغلته سريعا باحتلال أراض إضافية وقصف وتدمير مقدرات عسكرية واستراتيجية للدولة السورية، ما يفرض ضغوطا وتحديات غير مسبوقة على النظام الجديد في البلاد، وعلى الأطراف الداعمة له وفي مقدمتها تركيا. إذ أن الأخيرة حذرت مرارا من خطر “إسرائيل” على الأمن القومي التركي بأشكال مباشرة وغير مباشرة بما فيه ذلك إشارة أردوغان إلى أنها “على بعد ساعتين من حدودنا”، وهي المسافة التي باتت أقصر بكثير الآن رمزيا وعمليا.
نقلا عن عربي 21