مخطط الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتهجير أهل غزة، الذي يراوح بين الانتقام وادعاء الرأفة الزائف وإعطاء الضحايا فرصة تاريخية للوصول إلى سلام مشروط بترحيلهم من بلدهم الذي تجذروا فيه منذ الأزل، مثير للقلق.
القلق حتى اليوم كان يحمل طابعاً مختلفاً، قلق الأيام التالية مرده تصريحات ترامب. وهي تصريحات تكاد تكون جادة، بعيدا عما يقال هنا وهناك من أنها مجرد هرطقة لأخذ مكاسب من السعودية، ومنها وقف الترحيل كشرط لدخول السعودية التطبيع مع إسرائيل.
مثل كثيرين، كنت أعتقد أن الحرب على غزة لن تستغرق أكثر من بضعة أشهر. مع الوقت بدأت آلة البطش الإسرائيلي تمعن في تدمير كل ما هو قائم في شمال قطاع غزة وجنوبه، حتى أصبح الشمال أكثر المناطق المستهدفة فيه، وتحول إلى مدن أشباح، ولم تبقِ الطائرات والدبابات الإسرائيلية شيئاً مما عمل أهل غزة على تشييده على مدى عشرات السنين. كما طالت آلة التدمير الإسرائيلية المساجد والكنائس، وعمدت إلى طمس كل ما هو تاريخي في القطاع.
اقرأ أيضا.. الرؤية الأوروبية لاستمرار الهدنة في غزة
نحن ندرك حجم التحديات على المديين القصير والمتوسط. فاللحظة الحالية تتمثل في مرحلة غير مسبوقة لتغيير الديموغرافيا السكانية. هذا ما يريده ترامب، الذي قال في أحدث تصريحات له “أنا مصمم على شراء غزة” وأن “غزة ستكون مملوكة للولايات المتحدة.” جلي أن الرئيس الأميركي جاد في ترحيل أهل غزة إلى دول مجاورة، أو دول أخرى في أصقاع الأرض.
الخطورة بما يخطط ترامب للقيام به، هو ما تفكر فيه الصهيونية الدينية، ويكمن في تهويد غزة والضفة الغربية. وهذا ما حذر منه المراقبون منذ أمد بعيد. فالصهيونية الدينية تنظر إلى الضفة الغربية كجزء لا يتجزأ من عقيدتها المزيفة. إضافة إلى أن غزة جزء أصيل من الفكر التوراتي عندهم.
خطة بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية الإسرائيلي ووزير الإدارة المدنية في وزارة الدفاع، والمعروفة باسم “خطة الحسم”، تهدف إلى تحقيق سيطرة كاملة على الضفة الغربية، ومنع أي إمكانية لقيام كيان سياسي فلسطيني مستقل. كما تدعم الخطة برامج التهجير الطوعي للفلسطينيين، إضافة إلى ذلك تسعى الخطة إلى زيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية ليصل إلى مليوني مستوطن. أما الهدف الأميركي بزعامة الرئيس الحالي للولايات المتحدة فمختلف، فهو ينظر إلى غزة من منظور اقتصادي استثماري.
الأطياف والدول المؤيدة لخطة ترامب قليلة. الكل أجمع على أن ما يصرح به ترامب خارج التفكير البشري وهو ضرب من الجنون، وصعب أن يتحقق على أرض الواقع. لا يعقل أن يحدث ما يخطط له الرئيس الأميركي في القرن الحادي والعشرين، في وقت يعكف فيه العالم على وضع حد للحروب، وإعطاء صاحب الحق حقه، كما تجمع دول العالم على تسوية القضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين. هذا المنطق لا تتقبله الصهيونية الدينية المتطرفة في إسرائيل، كما لا تتقبله أحزاب المعارضة من يسار ويمين علماني كحزب الليكود وغيره رغم الاختلاف الأيديولوجي.
ثمة استياء عالمي واسع ومتنوع تثيره طروحات ساكن البيت الأبيض. هناك قطاع واسع يطالب ترامب بالكف عن هرطقته، وأن ما يخطط له سوف يقود المنطقة إلى دمار شامل. قد يراهن ترامب على رؤساء دول العالم، لكنه سيجد نفسه حتماً أمام مد جارف من شعوب العالم يقول له كفاك جنوناً. فويل له إذا تحركت الشعوب، حينئذ سيجد نفسه أمام مشروع مات في مهده، ويكون بذلك قد تعرض لأول ضربة قاسية تواجهه، وهذا ليس بعيداً عن الواقع. فشعوب العالم التي تسمع تصريحات ترامب على شفا أن تشعل براميل البارود تحت أقدامه.
في سياق التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم منذ بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتزامناً مع الأزمات الإنسانية الكبرى التي مرت بها فلسطين منذ بداية الثورة إلى يومنا هذا، ظهرت حركات داعمة لحق الشعب الفلسطيني حول العالم، وهي حركات من الصعب إخمادها أو إسكاتها، وسوف تعمل جاهدة في ظل تعنت ترامب وتهوره على تحطيم مخططاته في غزة. وفي حال سقطت ورقة غزة من يده فسوف تسقط كل الأوراق التي لوح بها في فترة دعايته الانتخابية، وبعد تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة.
ورغم الأثمان الباهظة التي دفعها الغزيون في حرب الإبادة التي تعرضوا لها، مازالوا يرفضون فكرة التهجير تحت أي ظرف كان. وعلى العالم والناخب الأميركي الذي انتخب ترامب ومؤسساته الفاعلة الرسمية وغير الرسمية إيقاف هذا المتهور الذي يقود العالم إلى الجحيم، خصوصاً بلاده، فلدى الشعب الأميركي الكثير من الأوراق ضده يستخدمها لإنقاذ البشرية من نرجسيته وشطحاته الجنونية.
يبقى الأمل أن يستفيق الشعب الأميركي ويشعر بضرورة تشكيل حزب جديد، بخلاف الحزبين المختطفين الديمقراطي والجمهوري اللذين وضعا مصلحة إسرائيل فوق مصلحة الولايات المتحدة، هذا من جهة.
من جهة أخرى تبقى لـ“الدولة العميقة” قوتها المؤثرة حتى اللحظة، وتشير بعض التعيينات التي قام بها ترامب إلى وجود علاقة سيئة مع هذه الدولة. ولكن، قد ينجح بمرور الوقت في السيطرة عليها كلية، وبالتالي السيطرة على مفاصل الحكم، أو قد تتم الإطاحة به بطريقة أو بأخرى.