يُعتبر البرنامج النووى الإيرانى من بين أعقد قضايا السياسة الخارجية التى ستفرض نفسها فور دخول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، وذلك بعد أن أصبحت إيران الآن بالفعل دولة على شفا امتلاك الأسلحة النووية، فبعد القرار الذى اتخذه الرئيس ترامب خلال فترة إدارته الأولى بالخروج من الاتفاق النووى مع إيران لعام 2015، كثفت إيران من جهودها لتخصيب اليورانيوم بما يجعلها، كما يتردد، قادرة على امتلاك عدد من الأسلحة النووية فى غضون بضعة أسابيع، وهو ما يجعل العودة إلى سياسة ممارسة «الضغوط القصوى» maximum pressures التى اتبعتها إدارته الأولى غير كافية «وحدها» لمواجهة التحدى القائم.
وهو الأمر الذى دفع بعدد من مستشارى ترامب إلى التصريح بشكل خاص بأن برنامج إيران قد تقدم إلى درجة الاستراتيجية بما قد يجعل التفكير فى اللجوء إلى الخيار العسكرى احتمالًا واقعيًا، وهو الأمر الذى يتزامن مع تصريحات الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون التى وصف فيها إيران بأنها «التحدى الاستراتيجى والأمنى الرئيسى لفرنسا، ولأوروبا، وللمنطقة بأكملها وإن تسارع برنامجها النووى يقربنا من نقطة الانفجار، كما أن برنامجها الصاروخى يهدد الأراضى الأوروبية» وإن الشركاء الأوروبيين فى الاتفاق النووى يجب أن يفكروا فى إعادة فرض العقوبات إذا لم يحدث تقدم من طهران فى معالجة هذه القضايا، وفى ديسمبر أصدرت ألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا بيانًا أعربت فيه عن «القلق الشديد» بشأن تزايد قدرة إيران على التخصيب مع مطالب إيران بالتراجع عن هذه الخطوات، وإيقاف تصعيدها النووى، وقد جاء هذا البيان بعد أن أفاد رافائيل جروسى، رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بأن إيران كانت تخصب اليورانيوم بنسبة نقاء تصل إلى 60٪، وإنها تقترب من المستوى البالغ 90٪ المطلوب لإنتاج سلاح نووى.
اقرأ أيضا.. هل تتفاءل إيران بإدارة “ترمب” الثانية؟
وعلى الرغم من التصريحات والتقارير الإعلاميه، بما فيها ما نشرته جريدة «وول ستريت جورنال» فى 13 ديسمبر الماضى، والتى توحى بأن الرئيس ترامب يدرس الخيارات المتاحة لمنع إيران من بناء سلاح نووى، بما فى ذلك إمكانية شن غارات جوية وقائية، وتصاعد الدعوات فى الداخل الأمريكى لمهاجمة المواقع النووية الإيرانية، إلا أن اللجوء الأمريكى إلى الخيار العسكرى يعد فى واقع الأمر محفوفًا بالمخاطر، إذ إنه يمكن أن يدفع إيران إلى استهداف القواعد الأمريكية فى الخليج وغلق مضيق هرمز وإشعال المنطقة بأسرها وإلى صدمات اقتصادية عالمية، لا سيما بسبب تأثيره على إمدادات النفط العالمية، خاصة أن البرنامج النووى وإمكاناتها الصاروخية هو ما تبقى لإيران بعد سلسلة الهزائم التى لحقت بها فى أعقاب هجوم السابع من أكتوبر 2024، فبمقتضى الضربات الإسرائيلية القاصمة ضد حركة حماس فى غزة وحزب الله فى لبنان وسقوط نظام بشار الاسد فى سوريا والتحولات التى تشهدها لبنان، تكون إيران فقدت فعليًا جانبًا هائلًا من أدواتها ومن قدراتها على التأثير فى مجريات الأمور فى المنطقة، إذ لم يعد من قبيل المبالغة القول «إن مشروع طهران التوسعى الإقليمى وما يعرف بالهلال الشيعى قد تصدع بدرجة تفوق التصور» وهى الآن تواجه تحديًا إضافيًا يتمثل فى عودة الرئيس ترامب مجددًا إلى البيت الأبيض خاصة أنه فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكى لعام 2017، عند الولاية الأولى لرئاسته، تم تسمية إيران باعتبارها أهم التهديدات لاستقرار الشرق الأوسط وللمصالح الأمريكية وإن الولايات المتحدة ستعمل مع مختلف الشركاء من أجل حرمان النظام الإيرانى من جميع الطرق المؤدية إلى سلاح نووى وتحييد النفوذ الإيرانى فى المنطقة، وهو الأمر الذى يتزامن مع تصاعد التحديات الداخلية التى تشهدها إيران نتيجة للأزمة الاقتصادية الطاحنة وتدهور قيمة العملة المحلية لمستويات غير مسبوقة وتزايد وتيرة الاحتجاجات الشعبية، يضاف إلى ذلك اتضاح مختلف أبعاد الاختراق الأمنى والاستراتيجى الذى بمقتضاه حصلت إسرائيل على معلومات بالغة السرية عن البرنامج النووى الإيرانى وقيامها بتصفية عدد من القائمين عليه والتى أضيف إليها عمليه اغتيال إسماعيل هنية الذى كان فى حماية الحرس الثورى، وما لحق حتى بنفوذ إيران من ضعف بعد عمليه تصفية قاسم سليمانى، فثقل إيران اليوم ونفوذها وحتى هيبتها قد تراجعت عما كانت عليه منذ سنوات، إلا أن ذلك لا يجب أن يجعلنا نغفل أن إيران لا تزال تمتلك برنامجًا نوويًا نشطًا وإمكانيات صاروخية هائلة وهى بذلك لم تفقد كافة أوراقها المؤثرة.
ونظرًا لأن نهج ترامب يركز على تجنب الانخراط فى حروب، إذ إنه حتى بعد الانسحاب عام 2018 من الاتفاق النووى الإيرانى تجنب الحرب مع إيران، مفضلًا العقوبات الاقتصادية والضغط الدبلوماسى، فبعد قيام الولايات المتحدة بتصفية قاسم سليمانى اختار عدم تصعيد الموقف إلى حرب شاملة، وهو ما أعاد التأكيد عليه فى خطاب تنصيبه يوم 20 يناير حيث ذكر أنه سيتجنب التورط فى الحروب العسكرية الأجنبية، لذا فمن المرجح أن يلجأ ترامب الى مواصلة توظيف العديد من أوراق الضغط على إيران والبناء على التصريحات الإيجابية التى صدرت عن الرئيس الإيرانى مسعود بزشكيان التى أعلن فيها استعداد بلاده للتفاوض مع واشنطن- وذلك فى موقف مختلف عن موقف الحرس الثورى الإيرانى- إذ قد تستأنف إدارة ترامب سياسة الضغوط القصوى التى اعتمدتها فى ولايته الأولى، مع تعزيز العقوبات الاقتصادية والسياسية على إيران.
مع تجنب الانخراط فى حرب مباشرة مع إيران وذلك طالما التزمت إيران بعدم المضى قدمًا فى عمليات تخصيب اليورانيوم إلى المستويات التى تمكنها فعليًّا من إنتاج الأسلحة النووية وانتقلت من مستويات التخصيب من 60 إلى 90٪، وقد يذهب ترامب تحت تأثير الضغوط الإسرائيلية وضغوط اللوبى اليهودى إلى إعطاء الضوء الأخضر لإسرائيل لاستهداف المنشآت النووية الإيرانية مع تقديم الدعم الاستخباراتى والعملياتى وأنظمة التسلح فائقة التطور التى تسمح لها بتدمير تلك المنشآت الواقعة فى أعماق الأرض دون أن تنخرط الولايات المتحدة بشكل مباشر فى ذلك، وقد تشمل سياسته اتخاذ مزيد من الإجراءات المباشرة ضد وكلاء إيران الإقليميين، مثل حزب الله فى لبنان، والميليشيات الشيعية فى العراق، والحوثيين فى اليمن مع فتح قنوات للحوار والتفاوض مع إيران تهدف دفعها إلى التخلى عن مواصلة رفع معدلات التخصيب وتعزيز أساليب الرقابة مقابل إعطاء ضمانات لأمن النظام.