للمرة الأولى في تاريخ تنصيب الرؤساء الأمريكيين، يدعو رئيس أمريكي رئيسًا صينيًّا لحضور حفل تنصيبه؛ إذ دعا الرئيس الأمريكي دونالد ترمب نظيره الصيني شي جين بينغ لحضور حفل التنصيب يوم 20 يناير (كانون الثاني) الجاري، وشاركت الصين بالفعل في حفل التنصيب بحضور نائب الرئيس هان تشنغ في مكان مميز جدًّا في الحفل نيابة عن الرئيس شي. وقبل دخول ترمب المكتب البيضاوي بثلاثة أيام فقط، أجرى مكالمة طويلة مع الرئيس الصيني، يوم 17 يناير (كانون الثاني) الجاري، تناولت جميع الملفات العالقة بين البلدين، وهو ما دفع ترمب إلى تأجيل فرض “رسوم جمركية” على الواردات الأمريكية من الصين، وبينما يستعد ترمب لفرض جمارك جديدة على البضائع القادمة من كندا والمكسيك (جارتَي الولايات المتحدة)، في بداية فبراير (شباط) المقبل، فإنه لم يعط أي تاريخ محدد بشأن فرض حواجز جمركية جديدة على البضائع القادمة من الصين، وهي السردية التي ظل الرئيس ترمب يرددها منذ خروجه من البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الأول) 2020.
لكن أكثر الأمور التي توقف عندها الجميع في الساعات الماضية هو التحول الكامل في موقف الرئيس الأمريكي تجاه تطبيق “تيك توك” الصيني، فبينما طالب أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وحتى المحكمة العليا الأمريكية، بحظره ووقف نشاطه في الولايات المتحدة، فإن ترمب كان له رأى آخر، وبدأ “يتغزل” في التطبيق، ويقول إن لـ”تيك توك” مكانًا كبيرًا في قلبه، وفي النهاية طلب من وزير العدل أن يعطي “تيك توك” فرصة لتعديل أوضاعه، أو شراء 50% منه.
لكن اللافت أكثر أن وزير الخارجية الأمريكي الجديد مارك روبيو، وهو أحد الصقور الكبار في الحزب الجمهوري -الذي له تاريخ طويل في انتقاد الصين- كانت كلماته لينة، وغير حادة عن الصين عندما تحدث عن العلاقات الصينية الأمريكية في جلسة تثبيته في منصبه بمجلس الشيوخ، أو عندما تحدث أمام موظفي وزارة الخارجية الأمريكية، مؤكدًا أن سياسة ترمب الخارجية سوف تقوم على أمرين رئيسين؛ الأول هو المصالح الأمريكية، والثاني هو الواقعية السياسية، في حين جاء ترتيب ما تُسمى “المبادئ الأمريكية” في مكان متأخر مقارنة بالمصالح الوطنية والواقعية السياسية.
لكن على الجانب الآخر، لا يمكن لأحد أن ينكر الخلافات والصراعات الأمريكية الصينية في ملفات مثل التجسس، والخلل في الميزان التجاري لصالح الصين، وما يُسمى “دعم الصين لروسيا”، فضلًا عن ملفات بحر الصين الجنوبي، وتايوان، وشينجيانغ، والتبت، وهونغ كونغ، والقواعد العسكرية الأمريكية في اليابان، وكوريا الجنوبية، وفيتنام، والفلبين، والصين، والمحيط الهادئ، فهل نحن أمام بداية جديدة وإيجابية في العلاقات الأمريكية الصينية، أم أن التغيير سوف يكون في “الأدوات” وطبيعة الخطاب السياسي والإعلامي فقط، وليس في “الأهداف”؟ وماذا عن التحديات التي يمكن أن يواجهها الطرفان حال توافر الإرادة السياسة لحل الخلافات العالقة؟
إقرأ أيضا : فرص ومخاطر تنتظر تركيا بعد وصول ترامب للبيت الأبيض
فلسفة مختلفة
قامت رؤية الرئيس السابق جو بايدن في التعامل مع الصين على ما سمّاه “الخلاف الجذري” بشأن القيم بين الولايات المتحدة والصين؛ ولهذا عملت الإدارة الديمقراطية السابقة بكل ما تملك في دعم شركائها الآسيويين الذين يتفقون معها في “القيم الأمريكية”، مثل اليابان، وكوريا الجنوبية، وأستراليا، ونيوزيلندا، بالإضافة إلى دعم الشركاء التاريخيين لواشنطن، الذين لهم خلافات مع الصين، مثل فيتنام، والفلبين، والهند، واعتمدت خطط الديمقراطيين على تعزيز الوجود العسكري الأمريكي بالقرب من الأراضي الصينية، ورفد حلفاء الولايات المتحدة بكل أنواع السلاح والذخيرة، بداية من طائرات الجيل الخامس “إف 35″، وصواريخ توماهوك التي منحتها لدول مثل اليابان، ومنظومة الدفاع الصاروخية الأغلى في العالم “ثاد”، التي منحتها لكوريا الجنوبية، والغواصات التي تعمل بالطاقة النووية التي منحها الرئيس بايدن لأستراليا.
لكن إستراتيجية الرئيس ترمب تجاه الصين تبدأ وتنتهي عند الأبعاد الاقتصادية والتكنولوجية والاستثمارية، ويمكن أن تأخذ خطوات الرئيس ترمب تجاه الصين عددًا من الخطوات، منها:
أولًا- تصحيح الخلل التجاري
بلغ حجم التجارة بين الصين والولايات المتحدة عام 2023 نحو 800 مليار دولار، منها نحو 550 مليارًا صادرات صينية، في حين لا تزيد الصادرات الأمريكية على 250 مليار دولار، وهو السبب الرئيس، والمشكلة الأكبر للرئيس ترمب، وتأمل إدارة ترمب تكرار “اتفاق المرحلة الأولى” الذي وقعته الصين والولايات المتحدة في يناير (كانون الثاني) 2020، ويسمح بنفاذ بضائع أمريكية إلى الصين بنحو 200 مليار دولار في عامين، لكن اتفاق 2020 واجه تحديات كبيرة، منها اتهام واشنطن لبيجين بعدم الالتزام بالاتفاق، وأن الزيادة في نفاذ البضائع الأمريكية إلى الأسواق الصينية كان طفيفًا جدًّا، وسوف يكون التوصل إلى مثل هذا الاتفاق “اختراقًا كبيرًا” في العلاقة الجديدة بين ترمب والرئيس شي، وسوف ينعكس التوصل إلى اتفاق تجاري جديد إيجابيًّا على باقي الملفات، لكن في الوقت نفسه سيشكل الإخفاق في مثل هذا الاتفاق خطرًا كبيرًا على العلاقة بين البلدين، ويمكن أن يطلق “حربًا تجارية” بين بيجين وواشنطن، لا سيما أن الرئيس ترمب عليه وعد انتخابي واضح، هو تخفيض التضخم، وتحسين حياة الأمريكيين، وتعزيز الوظائف والصناعات المحلية، من خلال وضع مزيد من الحواجز الجمركية على البضائع التي تُستورد من الصين.
ثانيًا- المصالح وليس المبادئ
تقوم رؤية ترمب، التي أعلنها بوضوح وزير خارجيته مارك روبيو، على تعزيز المصالح الأمريكية انطلاقًا من شعار “أمريكا أولًا”، وهو ما يعني تخلي الولايات المتحدة عن تصدير “الثورات الملونة” تحت زعم الديمقراطية للدول الأخرى، ومنها الصين، وهذا يمكن أن يعزز العلاقات الصينية الأمريكية بعد أن اشتكت الصين كثيرًا من التدخلات الأمريكية في عهد جو بايدن في ملفات حقوق الإنسان في هونغ كونغ، والتبت، وشينجيانغ.
ثالثًا- توتر مع الحلفاء الآسيويين
تنتظر الصين توتر العلاقات بين ترمب وحلفاء واشنطن الآسيويين خلال السنوات الأربع المقبلة؛ فالرئيس الجمهوري يرفض دفع مزيد من الأموال لدعم التحالفات والقواعد العسكرية الأمريكية في القارة الآسيوية، وسبق له أن أثار مشكلات تتعلق بتكاليف بقاء 50 ألف جندي أمريكي في اليابان، و29500 جندي في كوريا الجنوبية، وكان لفريق ترمب آراء مختلفة تجاه التوسع في القواعد العسكرية الأمريكية التي تحاصر الصين، خاصة حق وصول القوات الأمريكية إلى خمس قواعد عسكرية جديدة في الأراضي الفلبينية تم التوصل إليها بين الولايات المتحدة والفلبين في أبريل (نيسان) 2023، وكذلك اتفاقية الشراكة التاريخية بين الولايات المتحدة وفيتنام التي وقعها الرئيس جو بايدن في 10 سبتمبر (أيلول) 2023، وتنظر إدارة ترامب إلى هذه الاتفاقيات على أنها تكلف دافعي الضرائب الأمريكيين أموالًا طائلة، خاصةً بناء وتأسيس قواعد عسكرية جديدة، مثل تلك التي اتفق عليها الرئيس جو بايدن مع أستراليا، وتأمل الصين أن تؤدي سياسة ترمب الجديدة إلى تقليل أو تخفيف الاقتراب العسكري الأمريكي من المياه والأراضي الصينية، وأن تشكل آراء ترمب وفريقه بشأن ضرورة دفع الحلفاء والشركاء مزيدًا من الأموال لاستضافة القواعد والجنود الأمريكيين، بابًا للخلاف الأمريكي مع شركاء واشنطن في آسيا، وهو ما يصب عمليًّا في مصلحة العلاقات الصينية مع ترمب.
رابعًا- نهج مختلف بشأن تايوان
ترى الصين في الرئيس ترمب أنه أكثر التزامًا من سلفه الديمقراطي بوحدة الأراضي الصينية ومبدأ “الصين واحدة”، التي عملت بها واشنطن منذ عام 1979، وتقوم الحسابات الصينية على أن الرئيس الأمريكي الجديد لن يوافق على خطوات بعيدة لدعم تايوان كما حدث عندما زارت رئيسة مجلس النواب الأمريكي السابقة نانسي بيلوسي جزيرة تايوان، وتسببت هذه الزيارة في خلافات كبيرة بين واشنطن وبيجين، لكن أكثر ما يمكن أن يؤثر سلبًا في العلاقات الأمريكية التايوانية هو انتقاد ترمب للميزان التجاري بين الولايات المتحدة وتايوان بعد أن زادت الصادرات التايوانية مؤخرًا إلى الولايات المتحدة زيادة قياسية، خاصةً تلك التي تتعلق بالمكونات التي ترتبط بالذكاء الاصطناعي؛ ولهذا يرفض ترمب تقديم مساعدات عسكرية لتايوان، ويطالب بتحسين الميزان التجاري بين الطرفين وتصحيحه، وكل هذا يصب في صالح الصين التي رفضت “أول التزام أمريكي علني بالدفاع عسكريًّا عن تايوان”، وهو إعلان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن في 23 مايو (أيار) 2023 أنه مستعد للدفاع عسكريًّا عن تايوان في حال غزوها من جانب الجيش الصيني، وتلقت تايوان كميات قياسية من السلاح الأمريكي في عهد بايدن، وكان آخرها الحزمة الضخمة التي أقرها الكونغرس بصعوبة في أبريل (نيسان) 2024 بقيمة 8.1 مليار دولار.
رابعًا- حل القضية الكورية الشمالية
تراهن الصين على أن عودة ترمب من جديد إلى البيت الأبيض يمكن أن تخلق فرصة حقيقة لحل الخلافات الغربية مع كوريا الشمالية، خاصة أن ترمب عقد في ولايته الأولى 3 قمم مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جون أون، الأولى في يونيو (حزيران) 2018 بسنغافورة، والثانية في هانوي بفيتنام في عام 2019، في حين كان اللقاء الثالث في المنطقة المحايدة بين الكوريتين. ووفق تصريحات ترمب لقناة فوكس نيوز، يوم الخميس 23 يناير (كانون الثاني) الجاري، فإنه سيتصل مرة أخرى بالزعيم الكوري الشمالي كيم جيم أون، وسوف يحاول إحياء مفاوضات حل الخلافات من جديد، وهذا أمر إيجابي للصين؛ لأن كوريا الشمالية أوقفت تجاربها النووية والبالستية قبل انهيار المفاوضات بين ترمب وكيم عام 2019، وفي حال عدم إحراز تقدم كبير في سنوات ترمب مع كوريا الشمالية، فإن تجميد الصراع أو تخفيفه سيكون مكسبًا كبيرًا لكل دول شرق آسيا، وفي المقدمة منها الصين.
خامسًا- حديث خافت عن العسكرة
مع أن رؤية ترمب وفلسفته تعتمدان على “الدبلوماسية التي تقوم على القوة”، ويسعى إلى مزيد من التعزيزات للجيش الأمريكي، وبناء قبة حديدية أمريكية، فإنه لم يتحدث كثيرًا عن تسلح الصين، وسباق التسلح بين الصين وشركاء واشنطن المجاورين للصين، فالرئيس ترمب لا يتحدث عن التقدم السريع في البحرية الصينية، أو سعي الصين إلى تصنيع 1000 رأس نووي كما كانت إدارة جو بايدن تتحدث عن ذلك ليل نهار .
حقًّا كان هناك تخوف من اندلاع “حروب تجارية” بين الولايات المتحدة والصين في اليوم التالي لتنصيب ترمب، لكن تأجيل الرئيس الأمريكي فرض الحواجز الجمركية على الصين، والتواصل المباشر بين ترمب وشي، يمكن أن يوفر “فرصة تاريخية” لحل المشكلات العالقة بين واشنطن وبيجين.