غيّر انهيار نظام بشار الأسد في سوريا الخريطةَ الاستراتيجية للشرق الأوسط بشكل جذري. وتشير مقاطع الفيديو التي تُظهر مغادرةَ سفن حربية رئيسية في الأسطول الروسي ميناءَ طرطوس على الساحل السوري على البحر الأبيض المتوسط إلى أن الوجود العسكري الروسي في المنطقة سيتقلص. وبالمثل، سيصبح وصول إيران إلى سوريا، وإلى حليفها الرئيسي «حزب الله» اللبناني، محدوداً جداً.
وفي غضون ذلك، ستعزز إسرائيل وتركيا وجودهما في سوريا، ومن غير المرجح أن تسحب الولايات المتحدة قواتها من شمال شرق سوريا في المستقبل القريب.
هذا ومن المتوقع أن تشكّل كيفية التعاطي مع تداعيات الأزمة السورية أولوية قصوى بالنسبة لدونالد ترامب حينما يستأنف رسمياً رئاسة الولايات المتحدة في 20 يناير 2025. وكان ترامب قد روّج على مدى سنوات عديدة لسياسة «أميركا أولاً» التي تذكّر الكثيرين بسياسات «الجمهوريين» الانعزالية في أواخر الثلاثينيات وأوائل الأربعينيات من القرن الماضي. ففي 11 سبتمبر 1941، ألقى زعيم حركة «أميركا أولاً»، الطيّار البطل تشارلز ليندبيرغ، خطاباً في دي موين بولاية آيوا، انتقد فيه البريطانيين واليهود وإدارة روزفلت، بسبب دعوتهم إلى تدخل الولايات المتحدة في الحرب التي بدأت في أوروبا في سبتمبر 1939.
اقرأ أيضا.. هل تعود العلاقات الودية بين ترمب وشي في 2025؟
غير أن ليندبيرغ وغيره من الانعزاليين أُسكتوا بعد الهجوم الياباني على قاعدة بيرل هاربور الأميركية في هاواي في 7 ديسمبر 1941 حينما أدرك معظم الأميركيين أنهم مضطرون لمحاربة كل من اليابان وألمانيا هتلر.
معضلة ترامب تكمن في أنه مؤيد جداً لإسرائيل ومعاد جداً لإيران، وأنه سيتعين عليه اتخاذ قرارات حاسمة بشأن السياسة الأميركية قريباً جداً. وقد مُنيت إيران بانتكاسات عسكرية كبيرة خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ تعرضت «حماس» للتدمير تقريباً من قبل إسرائيل في الحرب في غزة، في حين أُضعف «حزب الله» بشدة في لبنان بعد مقتل العديد من كبار قادته، بمن فيهم أمينه العام حسن نصر الله، جراء الغارات الجوية الإسرائيلية وتلغيم أجهزة اتصالات الحزب.
وفي الأول من أكتوبر 2024، نفّذت إيران ضربة ضد إسرائيل استخدمت فيها أكثر من 200 صاروخ باليستي. وعلى الرغم من أن الأضرار كانت محدودة، إلا أن الهجوم كان غير مسبوق وأدى إلى رد إسرائيلي. وفي 26 أكتوبر، استخدمت إسرائيل 120 طائرة لمهاجمة إيران، بما في ذلك منظومة الدفاع الجوي التي تحمي طهران والمصانع التي تنتج وقود الصواريخ الباليستية. وعلى الرغم من أن كلا من إيران وإسرائيل قللتا من شأن هذا الهجوم، إلا أن التقارير اللاحقة تشير إلى أن نتائجه كانت من الفعالية بحيث أنه «لم يعد هناك دفاع استراتيجي حول طهران».
وقد أثبتت إسرائيل أنها قادرة على تدمير أهداف رئيسية في إيران بشكل دقيق، بما في ذلك عناصر من برنامجها للأسلحة النووية.
وإذا أخذنا هذه الهزائم في عين الاعتبار، فإن السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: هل ستكون لدى إيران دوافع وحوافز كافية الآن لتسريع برنامجها للأسلحة النووية، أم أنها ستقرر منح الدبلوماسية فرصة لإحياء مفاوضات جادة حول الحد من برنامجها النووي؟ الواقع أن الكيفية التي ستختار بها طهران ستشكِّل تحدياً لإدارة ترامب. فإيران ضعيفة، والمتشددون في إسرائيل والولايات المتحدة يعتقدون أن هذا هو الوقت المناسب للقضاء على البرنامج النووي الإيراني في المستقبل المنظور. غير أن هذا لا يمكن أن يحدث إلا بمشاركة مباشرة من الولايات المتحدة، نظراً لأنها الوحيدة التي تمتلك مخزوناً من القنابل الخارقة للتحصينات والقادرة على تدمير المنشآت الممتدة تحت الأرض التي بنتها إيران لحماية استثماراتها النووية.
ومن جهة أخرى، فإن هجوماً مباشراً من قبل الولايات المتحدة ضد إيران سيكون بمثابة «عمل حربي» يمكن أن يجر الولايات المتحدة إلى صراع طويل الأمد مع إيران وحلفائها. وهذا بالضبط هو الوضع الذي كان يعارضه العديد من «الجمهوريين» وينتقدونه، وخاصة ترامب ونائبه المنتظر جي دي فانس. وكانا يشيران إلى حرب 2003 ضد العراق باعتبارها مثالاً على ما يمكن أن يحدث في حال انجر المرء إلى عملية عسكرية شاملة في المنطقة.
غير أن دعم ترامب لمبادرة دبلوماسية جديدة تروم الحد من برنامج إيران النووي سيتعرض، بالمقابل، لانتقادات لاذعة من قبل مَن يعتقدون أن ذلك لن يؤدي إلا إلى مساعدة إيران على تجنب الحرب والعيش للقتال في يوم آخر.