بعد أيام قليلة من عودته إلى البيت الأبيض، بدأ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والسياسي العالمي، مستخدمًا نفس الأدوات التي ميزت ولايته الأولى: العقوبات، والتهديدات الجمركية، والابتزاز الاقتصادي لتحقيق مكاسب سياسية وانتخابية. لكنه هذه المرة يواجه سياقًا عالميًّا أكثر تعقيدًا، حيث تتشابك الحرب التجارية مع الصين، والصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، والأزمة الاقتصادية المتفاقمة في الولايات المتحدة.
رؤية ترامب للاقتصاد العالمي
ينظر ترامب إلى السياسة الخارجية والاقتصاد العالمي بنظرة تجارية حيث لا مجال للدبلوماسية أو التعاون طويل الأمد، بل تسود المساومة والابتزاز.
خلال ولايته السابقة، فرض تعريفات جمركية ضخمة على الصين، والمكسيك، وكندا، مهددًا بإغلاق الأسواق أو رفع التكاليف على الواردات. الآن، وبعد عودته إلى الرئاسة، يواصل النهج نفسه، ملوحًا بمزيد من القيود التجارية، في محاولة لإجبار الدول على تقديم تنازلات تخدم الأجندة الأميركية.
الحروب التجارية: ورقة مساومة أم مغامرة خطرة؟
منذ عام 2016، استخدم ترامب التعريفة الجمركية سلاحًا تفاوضيًا ضد الصين، لكن هذه السياسات لم تحقق أهدافها المرجوة. بدلًا من تقليص العجز التجاري، تسببت هذه الحرب في اضطراب سلاسل التوريد، وألحقت ضررًا كبيرًا بالاقتصاد الأميركي قبل غيره.
ومع عودته، يهدد ترامب برفع الرسوم الجمركية مجددًا على الواردات الصينية، ما قد يزيد الضغوط على الاقتصاد العالمي، خصوصًا في ظل تباطؤ النمو الصيني وأزمة الديون الأميركية المتفاقمة.
ولم تقتصر سياساته على الصين، بل امتدت إلى كندا والمكسيك، حيث ضغط لإعادة التفاوض على اتفاقيات التجارة، بطريقة تمنح الولايات المتحدة امتيازات إضافية. كما لم يتردد في تهديد أوروبا بفرض تعريفات عقابية على شركاتها، في محاولة لجذب الاستثمارات إلى السوق الأميركية بالقوة.
إقرأ أيضا : كيف يمكن التعايش مع ترمب في عالم الإمبراطوريات؟
الاقتصاد الأميركي: عملاق بأرجل من طين؟
رغم خطابه المتكرر عن “أعظم اقتصاد في العالم”، تواجه الولايات المتحدة تحديات خطيرة، أبرزها الدين العام الذي تجاوز 33 تريليون دولار، وهو مستوى غير مسبوق يضع الاقتصاد الأميركي على حافة أزمة تضخم جديدة.
أضف إلى ذلك ارتفاع معدلات الفائدة وزيادة الديون الاستهلاكية، ما يجعل الاستقرار الاقتصادي الأميركي موضع شك. لكن السؤال الأهم هو: هل ما زالت أميركا الوجهة الاستثمارية الأكثر أمانًا؟
الاستثمارات الخليجية: هل أميركا هي الوجهة المثلى؟
لطالما كانت الولايات المتحدة الوجهة التقليدية للاستثمارات الخليجية، لكن التطورات الأخيرة تطرح تساؤلات حول مدى نجاعة وأمان هذه الاستثمارات مقارنة بالأسواق الأخرى.
في مجال الذكاء الاصطناعي، أثبتت الشركات الصينية أنها تضاهي نظيراتها الأميركية من حيث الكفاءة والابتكار، لكنها تقدم التكنولوجيا بتكلفة أقل بكثير، ما يجعل الصين وجهة استثمارية مغرية.
استخدام الولايات المتحدة للعقوبات الاقتصادية وتجميد الأصول -كما حدث مع روسيا- جعل المستثمرين الدوليين أكثر حذرًا من ضخ أموالهم داخل النظام المالي الأميركي، خشية أن يتم استخدامها كورقة ضغط سياسية في المستقبل. الأسواق الناشئة مثل الصين، وفيتنام، والبرازيل، وأيرلندا، تقدم فرصًا استثمارية جذابة مع مخاطر سياسية أقل، وعوائد قد تتفوق على الاستثمارات في الشركات الأميركية.
ترامب والشرق الأوسط: شراكة إستراتيجية أم استغلال اقتصادي؟
لم يكن الشرق الأوسط بالنسبة لترامب سوى ساحة لتحقيق المكاسب السياسية والاقتصادية على حساب شعوب المنطقة؛ ففي ولايته الأولى، منح إسرائيل مكاسب غير مسبوقة، بدءًا من نقل السفارة الأميركية إلى القدس، مرورًا بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على الجولان، وانتهاءً بمحاولات فرض “صفقة القرن”، التي كانت تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية.
واليوم، في ظل استمرار تبعات العدوان الإسرائيلي على غزة، يبدو ترامب مستعدًا لاستخدام القضية الفلسطينية كورقة مساومة جديدة، لإرضاء داعميه من اليمين المتطرف واللوبي الإسرائيلي.
مريام أديلسون: المال مقابل التطهير العرقي
من أبرز ممولي حملة ترامب مريام أديلسون، أرملة الملياردير شيلدون أديلسون، أحد أكبر أباطرة صناعة الكازينوهات في لاس فيغاس. هذه المليارديرة، المعروفة بدعمها الأعمى لإسرائيل، تمارس دورًا رئيسيًّا في توجيه سياسات ترامب تجاه الشرق الأوسط.
مريام أديلسون ليست فقط ممولة لحملاته، بل تعد من أكثر الداعمين تطرفًا لمشاريع التهجير القسري للفلسطينيين، وتؤيد علنًا التطهير العرقي في غزة والضفة الغربية. في ظل هذا النفوذ المالي والسياسي، يمكن فهم سبب اندفاع ترامب نحو دعم إسرائيل بلا حدود، حتى لو كان ذلك على حساب استقرار الشرق الأوسط وأمنه.
ترامب وجغرافيا القوة: من غرينلاند إلى الخليج
في ولايته الأولى، لم يُخفِ ترامب طموحاته التوسعية، حيث أعرب علنًا عن رغبته في شراء جزيرة غرينلاند من الدانمارك، في خطوة أثارت سخرية عالمية. لكن، رغم أن الفكرة بدت غير واقعية، فإنها كشفت عن نهجه في التعامل مع الدول الصغيرة والكيانات الاقتصادية الضعيفة، حيث يسعى إلى فرض وقائع جديدة بالقوة الاقتصادية، سواء عبر الاستحواذ المباشر أو من خلال إجبار الدول على تقديم تنازلات إستراتيجية.
أما في منطقة الخليج، فيواصل ترامب استخدام أسلوب الابتزاز، محاولًا إجبار الدول الخليجية على ضخ استثمارات ضخمة في الشركات الأميركية، أو شراء المزيد من الأسلحة. لكنه يواجه واقعًا متغيرًا، حيث بدأت الدول الخليجية تنوع شراكاتها الاقتصادية بعيدًا عن الاعتماد الكامل على واشنطن، مع توجه متزايد نحو الصين والهند كشركاء إستراتيجيين.
هل تنجح سياسة في عالم متعدد الأقطاب؟
يعود ترامب إلى المشهد السياسي في وقت لم تعد الولايات المتحدة فيه القوة الاقتصادية الوحيدة القادرة على فرض شروطها؛ فالعالم أصبح أكثر تعقيدًا، والتحالفات الاقتصادية تتشكل بعيدًا عن الهيمنة الأميركية. ومع بروز الصين كقوة اقتصادية، وتزايد النفوذ الروسي، والتحول في موازين القوى في الشرق الأوسط، يبدو أن نهج ترامب القائم على التهديد قد لا يكون فعالًا كما كان في الماضي.
السؤال الآن: أينجح ترامب في فرض “صفقاته” الجديدة على العالم، أم إن التكلفة هذه المرة ستكون أكبر مما يستطيع الاقتصاد الأميركي أو النظام العالمي تحمله؟
الأشهر القادمة ستكشف ما إن كان الاقتصاد العالمي مستعدًا لجولة جديدة من “حروب ترامب”، أم إن الزمن قد تجاوز سياسات “الكاوبوي” في عالم لم يعد يقبل الهيمنة الأميركية المطلقة.