لا زالت تداعيات فوز الرئيس الأمريكي الأسبق دونالد ترامب بفترة رئاسية جديدة لبلاده تبدأ في العشرين من يناير المقبل حاضرة في كافة مشاهد السياسة الدولية الراهنة، وفي إفريقيا بطبيعة الحال لكن من زاوية الانتظار والترقب أكثر من غيرها من بقية بقاع العالم. وتعكس تلك الحالة هشاشة المواقف الإفريقية الفعلية والمتوقعة تجاه السياسات الأمريكية، أو بالأحرى حدود الاستجابة لها والتكيف مع توجيهاتها. ومع قرب بدء ممارسة ترامب مهام منصبه في المكتب البيضاوي بعد أقل من شهرين فإن إفريقيا تترقب بقلق واضح هذه اللحظة مما يعكس هامشية إفريقيا التقليدية في الاستراتيجية الأمريكية، وعجز القارة عن وضع استراتيجيات واضحة تحت مظلة الاتحاد الإفريقي لحماية مصالحها وخفض التهديدات التي تلحق بها بسبب استقطابات السياسات الدولية والإقليمية داخلها، وفي مقدمتها التنافس الأمريكي مع دول مثل الصين وروسيا.
يتناول المقال الأول وضع إفريقيا في ظل مبدأ “أميركا أولًا” الذي يتبناه الرئيس المنتخب ترامب في ملفات متنوعة تتقاطع بشكل ملفت مع اهتمامات القارة الإفريقية (مثل مصير المهاجرين الأفارقة داخل الولايات المتحدة، والسياسات الاقتصادية والأمنية الأمريكية تجاه القارة). ويعرض المقال بموضوعية واضحة هذا المبدأ وتداعياته المرتقبة على القارة، وإن أعاد طرح أفكار تقليدية عن احتمالات تغيير إدارة ترامب سياساتها الإفريقية وفرص استفادة إفريقيا من أي تغيير متوقع في هذه السياسات؛ مما يحيل إلى قراءات متناقضة اتضحت تمامًا في نهاية المقال وطرحه حول ما الذي يجب على إفريقيا القيام به إزاء هذه السياسة الأمريكية.
أما المقال الثاني فقد تناول تأثير سياسات الولايات المتحدة الإفريقية على مواقف الاتحاد الأوروبي تجاه القارة في الفترة المقبلة. وعرض المقال الثالث بإيجاز لواحدة من تأثيرات سياسة “اميركا أولًا” على إفريقيا وفي ملف محدد وهو الهجرة في نيجيريا مؤكدًا تضرر مرتقب لقطاع تحويلات النيجيريين المقيمين في الولايات المتحدة؛ الذين يقترب عددهم من 400 ألف نيجيري أغلبهم من الشباب، ويدرون على الاقتصاد النيجيري نحو 20 بليون دولار حسب تقديرات العام الماضي 2023.
إفريقيا وعودة مبدأ “أميركا اولًا” :
يتوقع أن تثير عودة دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة في يناير 2025 تحولًا في شئونها الداخلية والخارجية. ولا زالت تداعيات رئاسة ترامب الثانية – ترامب 2.0- محل سجال في أرجاء العالم. ويأمل كثير من المراقبين أن تعزز ولاية ترامب الثانية حظوظ بعض الدول، وإنهاء الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط. بينما يخشى مراقبون آخرون من أن عودة ترامب ستحدث اضطرابات كبرى. كما يسود خوف بين بعض المراقبين الأفارقة من خفض ترامب اهتمام بلاده بالقارة، كما كان الحال في إدارته الأولى.
وخلال بحثنا الراهن في المركز الإفريقي لدراسة الولايات المتحدة African Centre for the Study of the US في جامعة بريتوريا نرى أن ترامب 2.0 يمكن أن تحمل حقيبة منوعة المحتويات، بين الرجاء والخوف لإفريقيا. وعلى سبيل المثال فإن مقاربته العملية في السياسة الخارجية وتفضيله لعلاقات ثنائية انتقائية استنادًا لحاجات الولايات المتحدة الاستراتيجية يمكن أن تمثل تطورًا إيجابيًا للعلاقات الخارجية والاستثمارات والتجارة مع بعض الدول الأفريقية. لكن يمكن لهذه المقاربة أيضًا أن تهدد الأصوات الإفريقية في الشئون العالمية. ويمكن أن تمثل أثرًا سيئًا على الديمقراطية والاستقرار والالتزام بحقوق الإنسان والتغير المناخي. كما يمكن أن تؤثر إدارة ترامب سلبًا على الهجرة الإفريقية للولايات المتحدة.
سياسة أميركا أولًا:
يعني توجه سياسة أميركا أولًا لدى ترامب أن مصالح الدول الأخرى والتزامات إدارته نحوها ستكون ثانوية. فالعلاقات تقوم على مكاسبها لدى الولايات المتحدة. ومن هنا فإن مصالح الولايات المتحدة والتزاماتها سترتبط بمطالب الأمن الاستراتيجي والاقتصاد.
ويمثل ذلك تحديًا للدول الإفريقية التي لا تمثل سوى أهمية استراتيجية محدودة للولايات المتحدة. وعلى سبيل المثال بادرت الولايات المتحدة خلال إدارة ترامب الأولى (2017- 2021) بالاهتمام بصفقات التجارة الثنائية أكثر من ديناميات قانون النمو والفرص الإفريقي African Growth and Opportunity Act (AGOA). ويتيح القانون وصلًا معفى من الجمارك لمنتجات معينة من الدول الإفريقية المؤهلة إلى السوق الأمريكية.
وسيؤثر ذلك التوجه (حال تجدده) على الدول المستفيدة من “أجوا” وقد التغير الدول التي تعمل على تأمين صفقات مع إدارته. لكن يمكن أن يقود ذلك أيضًا إلى تشظٍ في العلاقات التجارية الأمريكية- الإفريقية، وإلحاق الضرر بالاقتصادات الأصغر صاحبة لاقوة التفاوضية الأقل.
الأمل والتفاؤل:
وبعد استعراض عدد من الملفات التي تؤرق الدول الإفريقية (تحديدًا الهجرة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، والتغير المناخي والتغيير المرتقب في بناء مجلس الأمن بالأمم المتحدة)، لا تزال هناك قدر من الأمل في إدارة ترامب المقبلة إفريقيًا.
أولها أنه من غير المرجح أن يتجاهل ترامب الطبيعة التنافسية المتزايدة للعلاقات الدولية، وعلاقات إفريقيا النامية مع الصين، وروسيا، ومنافسي الولايات المتحدة الآخرين. وعلى سبيل المثال، حافظت الولايات المتحدة، في فترة إدارته الأولى، على وجود قوي لمناهضة الإرهاب في إفريقيا. واستهدفت على وجه الخصوص جماعات إرهابية في الساحل والقرن الإفريقي. ومن ثم يمكن لترامب 2.0 أن تشهد دعمًا عسكريًا متزايدًا لمبادرات مواجهة الإرهاب، مع تفضيل دعم الدول الحليفة مثل نيجيريا وكينيا. بأي حال فإن ترامب لم يتعهد بنشر قوات أمريكية على الأرض.
ثانيًا تقدم إدارة ترامب الأولى دوافع للأمل في تحسن العلاقات التجارية الأمريكية- الإفريقية. وقد تراجعت تجارة الولايات المتحدة مع 49 دولة إفريقية من 104.7 بليون دولار في نهاية ولاية الرئيس جورج بوش في العام 2088 إلى 33.7 بليون دولار في نهاية فترة أوباما في العام 2016. وتحسنت هذه العلاقات التجارية في أول عامين من إدارة ترامب الأولى حيث وصلت إلى 40.9 بليون دولار قبل تراجعها مجددًا إلى 32.7 بليون دولار مع وقوع جائحة كوفيد-19.
وقد ارتفع حجم الاستثمارات المباشرة الخارجية الأمريكية في إفريقيا جنوب الصحراء في العامين الأوليين من إدارة ترامب الأولى من 33.7 بليون دولار عند نهاية إدارة أوباما في العام 2016 إلى 39 بليون دولار في العام 2017 ثم 40.9 بليون دولار في العام 2018، وإن تراجعت إلى 32.6 بليون دولار في العام التالي وكان عند 30 بليون دولار في العام 2020. وفي نفس المسار ارتفعت الاستثمارات الأجنبية الخارجية الإفريقية إلى الولايات المتحدة من 4.6 بليون دولار في العام 2016 إلى 9.8 بليون دولار في العام 2020.
ثالثًا، أولت إدارة ترامب الأولى أهمية فائقة للاستثمار على نماذج مساعداتها التقليدية وفضلت شعار “الازدهار عبر الشراكة” وانعكس ذلك فيما أعلنه ترامب من “استراتيجية الهند”، وكذلك مع كينيا. ويمكن أن يؤدي هذا التوجه إلى خفض في المساعدات الإنسانية والتنموية المقدمة لإفريقيا، ويؤثر على الصحة والتعليم ومشروعات البنية الأساسية التي تعتمد على المعونات. بأي حال فإن ذلك قد يقود الأفارقة للعمل على مساعدة أنفسهم. وربما يكون ذلك ما تحتاجه القارة على وجه الدقة لوقف تبعيتها والتعامل مع منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية بجدية.
ما الذي يجب على إفريقيا فعله؟
رغم المخاوف التي يثيرها قدوم إدارة ترامب 2.0 فإنها قد تمثل فرصًا للتنمية الذاتية مع اضطرار إفريقيا للاعتماد بقدر أقل على المعونات الأمريكية. وبدلًا من ذلك، فإنه يمكن لإفريقيا ان تسخر مواردها البشرية والمادية الهائلة لخدمة تنميتها الخاصة بها. ومع تغير أولويات الولايات المتحدة في ظل ترامب 2.0 فإن القادة الأفارقة سوف يواجهون قرارات حول كيفية خوض الشراكات من أجل تأمين الاستثمارات، والحفاظ على الاستقرار السياسي، ومعالجة الحاجات التنموية بعيدة الأجل في القارة عبر استراتيجيات مستقبلية. وفي المحصلة فإنه في عالم متعدد الأقطاب على نحو متزايد ويتسم بتعدد القوى التي تتحدى الهيمنة الأمريكية، فغن الدول الإفريقية لديها فرصة لتحقيق تحالفات متنوعة. وعليها موازنة التأثيرات الأمريكية والصينية والروسية والقوى الدولية الأخرى على نحو يفيد الأفارقة مستقبلًا.
إقرأ أيضا : هل السياسة الخارجية الأمريكية تفيد إفريقيا أم تُعيق تقدمها؟
لماذا يجب على الأوروبيين انتهاج مقاربة دقيقة نحو ترامب في إفريقيا:
ارتبطت سياسة دونالد ترامب الإفريقية، خلال رئاسته الأولى، بسلسلة من الحماقات وقرارات السياسة الخارجية المضطربة. وتمثل إعادة انتخاب ترامب دعوة استيقاظ للحكومات الأوروبية ببناء علاقة قوية مع أسرع قارات العالم نموًا وهي دعوة هامة أكثر من أي وقت مضى. وبغض النظر عن تراجع مكانة إفريقيا في أجندة ترامب وإدارته المقبلة، الأمر الذي يتلقاه الأوروبيون بقبول واضح، فإنه على المسئولين الأفارقة ونظرائه في أوروبا الاستعداد للعب دور في ورقة ترامب الخاصة بالأمن (في أفريقيا)، لاسيما أنه ليس من الواضح بعد ما سيعنيه شعار “أميركا أولًا” بخصوص وجود قوات أمريكية في إفريقيا والمساعدات العسكرية التي تقدمها واشنطن للقارة.
تغيير مراكز الصراع:
قام دونالد ترامب خلال رئاسته الأولى بمواجهة داعش في العراق والشام كأولوية واضحة في سياسته الخارجية. وعزز صورته باعتباره من قضى على عدد من قادة الجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط. لكن في إفريقيا وقع أمران متناقضان فقد صعدت إدارة ترامب من ضربات مسيراتها النافذة في الصومال لمستويات غير مسبوقة، بينما خفض ترامب بشكل كبير عدد القوات الأمريكية في القارة من 5000 جندي إلى 1500 جندي. والآن انتقل مركز الصراع الإرهابي (من الشرق الأوسط) إلى إقليم الساحل، الأمر الذي يؤشر إليه وقوع ضحية واحدة للعمليات الإرهابية من بين كل أربعة في العالم في دولة بوركينا فاسو. لكن لا يبدو مرجحًا من عدة أوجه أن غدارة ترامب ستولى الاهتمام نفسه بقادة الجماعات الإرهابية في غرب إفريقيا كما حال اهتمامها بأقرانهم في الشرق الأوسط.
وربما تقرر إدارة ترامب الثانية أن الأزمات الأمنية في القارة مثيرة للضجر على نخو بالغ ولا تستحق حتى اهتمامًا محدودًا كالذي تحظى به حاليًا (في عهد إدارة جو بايدن). وبالفعل فإنه إن كان ثمة شيء مؤكد بخصوص سياسة إدارة ترامب المقبلة تجاه إفريقيا فإنه عدم توجه ترامب، خلافًا لحال بايدن حاليًا، لاستهلاك رأس المال السياسي مع دول الخليج -التي تملك مفتاح وقف الصراع في السودان- ومحاولته دعم عملية سلام في السودان الذي بات أكبر أزمة إنسانية في العالم.
كما أن مسألة مواصلة إدارة ترامب الجديدة مواجهة نفوذ روسيا في إفريقيا من عدمه – التي يبدو أن إدارة بايدن كانت تقوم بها بفاعلية وفي صمت- تمثل ورقة أخرى مهمة في سياق علاقة ترامب الوثيقة والشخصية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يسارع من عدوانه في أوكرانيا.
كما يتخوف الأوروبيون من توجهات إدارة ترامب المقبلة بدعم الاتجاهات الاستبدادية في إفريقيا. وبالطبع فإن نجاح ترامب مثل نبأ سيئًا في أوروبا لمن يدافعون عن مبادئ مجتمع مفتوح ويضيق هامش انتقاد المسئولين الأمريكيين لتصرفات الحكام الأفارقة. لكن إن كان الأمريكيون صرحاء مع أنفسهم فإنهم يعلمون أن الديمقراطيين والجمهوريين يسعون دومًا لدعم القادة الأفارقة الأقوياء الذين يؤيدون المواقف الأمريكية، وهو تاريخ يعود لرئيس زائير موبوتو سيسي سيكو.
سياسة ترامب حول الهجرة تهدد تدفقات الشتات النيجيري البالغة 20 بليون دولار :
توقع خبراء نيجيريون أن عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض في 20 يناير 2025 ربما ستعني تهديد متحصلات نيجيريا من تدفقات الشتات السنوية الموجهة لها بقيمة 20 بليون دولار. وكان ترامب قد تعهد خلال حملته الانتخابية بمراجعة شاملة لسياسة الهجرة الأمريكية مع عمليات ترحيل جماعي للملايين من المهاجرين دون وثائق مثبتة. كما هدد ترامب بتنفيذ ما وصفه “بأكبر عملية ترحيل محلية في التاريخ الأمريكي”، وهو التصريح الذي أثار نقاشات مطولة في أرجاء العالم.
وكانت تهديدات ترامب الأخيرة مجرد تذكير بسياسة الهجرة التي اتبعها خلال فترة رئاسته الأولى. وفي العام 2020 أضافت إدارة ترامب نيجيريا إلى قائمة الدول التي يقيد هجرة مواطنيها إلى الولايات المتحدة بصورة ما لأن نيجيريا لم تلتزم بمعايير إدارة الهوية ومشاركة المعلومات.
ووفقًا لمصادر رسمية يعيش قرابة 376 ألف نيجيري في الولايات المتحدة حسب ارقام العام 2015. وتعتبر نيجيريا أكبر مصدر للهجرة الإفريقية إلى الولايات المتحدة. وتمثل الأخيرة أحد أهم وجهات الشباب النيجيري المهاجر ولاسيما من ينتمون للطبقة المتوسطة. ويدر المهاجرون النيجيريون في الولايات المتحدة نحو 20 بليون دولار سنويًا على الاقتصاد النيجيري وفقًا لبيانات من البنك الدولي في العام 2023.