على أبواب سنةٍ ترحل وسنة تُطل، تبدو ملفات المنطقة وكأنها ستنتقل، كما هي، من سنة إلى سنة، ومثلما شهدنا من قبل، ففي أغلب الأحيان يتم ترحيل المشكلات والأزماتخمط للقادم من الأيام، والقناعة السائدة خلف ذلك كله هي الرهان على الزمن، وأنه وحده سوف يحل كل المشكلات، ولكن تجربتنا تخبرنا بأنه لا شيء يتم تسويته، بل تتفاقم الأزمات، وكثيرًا ما تدفع الأنظمة والشعوب ثمنًا باهظًا من جراء الرهان الصعب على الزمن.
وفي أحيان كثيرة يؤدي التأخر في الحل الحاسم، والقبول بتسويات مؤلمة بفقدان الأوراق التفاوضية، بل يتم انهيار النظام، ورحيل رموزه، ودخول الدولة في المجهول.
وفي أغلب الأوقات يدفع عامة الناس ثمن الأزمة وعدم حلها وتفاقمها، ثم رحيل النظام، وبعدها ثمن فرض نظام جديد على أنقاض نظام سقط، وهذه تجربة مريرة تكررت بصور مختلفة في المنطقة، وآخر تجلياتها سوريا ونظام بشار وحزب البعث.
من المحزن أن الأخطاء ذاتها تتكرر، ولا يبدو أن أحدًا يريد أن يسير في طريق “المشاركة”، ولكن الغالبية تفضل الانفراد بكعكة السلطة كاملة، وفي لحظة النشوة بتحقيق “انتصار مرحلي” يبدأ السيناريو القديم يفرض نفسه على المشهد.
والآن العيون كلها في المنطقة تركز على سوريا، وتبدو المؤشرات تسير في ذات الطريق المسدود الفاشل، وأغلب الظن أن 2025 لن يكون مختلفًا عما سبقه من سنوات في الشرق الأوسط، والبداية سوريا.
فقد بدد قائد هيئة تحرير الشام أحمد الشرع الأجواء الاحتفالية بحديث صادم عن الدستور والانتخابات في سوريا، وقال الشرع بوضوح في حديث إلى قناة العربية، إن إعداد وكتابة دستور جديد في البلاد، قد يستغرق نحو 3 سنوات، وتنظيم انتخابات قد يتطلب أيضًا 4 سنوات، إذ إن أي انتخابات سليمة ستحتاج إلى القيام بإحصاء سكاني شامل، ما يتطلب وقتًا، وأحسب أن معسكر المتفائلين عليهم أن يتواضعوا في قراءة أوراق المستقبل.
وفي الوقت نفسه لم تُرد سوريا أن تستقبل العام الجديد، إلا وهي تحمل أسوأ الكوابيس، ألا وهو تفجر الحرب الأهلية، فقد هددت قوة مسلحة سورية الشرع بـ”حمام دم” يصل قلب دمشق إذا لم يوقف “عمليات الإجرام”.
وأصدرت مجموعة تطلق على نفسها “المقاومة السورية في الساحل” تضم أفرادًا من دمشق والساحل ومدنًا أخرى بيانًا يطالب السلطات السورية الجديدة بوقف “الانتهاكات” تفاديًا لوقوع حمام دم في البلاد.
وقالت المجموعة في بيانها: “بعد مرور ما يقرب من 3 أسابيع على تولي العصابات المسلحة سدة الحكم في سوريا، برضى ومباركة من أمريكا ودولة الاحتلال وحلف “الناتو”، رأينا منذ اليوم الأول الأفعال الخبيثة التي قاموا بها من سرقات وانتهاكات وعربدة وفساد وفوضى وتخريب وتكسير للممتلكات العامة السورية”.
وبعد سردها العديد من الأمور التي تعتبرها انتهاكات عبر “قتل أبناء الشعب السوري في الشوارع والمنازل، دون أي مبررات شرعية دينية أو قانونية” طالب البيان كافة الجهات المعنية داخل سوريا وخارجها بـ”إجبار الإدارة السورية الجديدة المتمثلة في أحمد الشرع أن توقف عملياتها الإجرامية ضد مكونات الشعب السوري حتى لا يقع حمام من الدماء أصبح قاب قوسين أو أدنى”.
واختتم بيان “المقاومة السورية في الساحل”: “ما زلنا نتريث حقنًا للدماء، وحتى لا يقال إننا مشعلو فتن، فنحن لا نريد إلا أن تكون سوريا عربية مستقلة، كما كانت لكل مكونات الشعب السوري”.
ومن ناحية أخرى نشهد مثالًا آخر على المقولة المريرة “ويل للمهزوم في الشرق الأوسط”، فبعدما دعمت روسيا نظام الأسد في وقت سابق، ولديها قواعد عسكرية في سوريا.
وتبدو تصريحات لافروف ضمن جهد مكثف من روسيا لإبعاد نفسها عن “سقوط الأسد السريع”، ومحاولة مستميتة من جانب الحكومة الروسية الابتعاد عن الرئيس السوري المخلوع بشار الأسد، في وقت تبحث فيه عن مصالحها الإستراتيجية التي تقتضي تقديم مرونة في عدد من الملفات خلال تواصلها مع الإدارة السورية الجديدة، وإهالة التراب على النظام الساقط.
وبعيدًا عن حالة الجدل الدائرة بشأن بقية حقيقة ما حدث قبل مشهد فرار الأسد وسقوط النظام، ودور روسيا فيما جرى، تبدو ملاحظات لافروف صحيحة ومريرة.
ومن الواضح أن النظام السوري الذي أرساه حافظ الأسد بقبضة من حديد قد تكلس بقوة، ولم يعد بإمكانه الإصلاح من الداخل، ولا يستطيع إنتاج سوى القمع والفساد.
وفي ظل جمود سلطة بعيدة لا تسمع سوى نفاق المنتفعين لم يتوقف بشار ورجاله أمام حقيقة بسيطة وبديهية، وهي أن شعبه لم يعد يقوى على تحمل مزيد من المعاناة وتجاهل مشكلاته الحياتية، ولم تعد لديه الرغبة في القتال دفاعًا عن بقاء النظام؛ ولذا كان محتومًا ألا يستمر جنود بشار في الدفاع عنه، وأن يتخلى عنه الحلفاء ويرحل هو في النهاية بصورة مخزية.
اقرأ أيضا.. ما تم اكتشافه بعد سقوط النظام السوري!
والسؤال الأهم هنا هل يتعلم قادة سوريا الجدد الدرس، وتبدأ سوريا رحلة التغيير في الشرق الأوسط؟
وأحسب أن الإجابة على الأرجح لا، وربما يقول البعض لِمَ؟ والإجابة هي ألا أحد يتعلم من أخطاء وخطايا الآخرين في الشرق الأوسط.
ويبقى أن ثمة أملًا ضئيلًا يراود الغالبية في الشرق الأوسط، وهو أن يكون حظ سوريا أحسن، وأن يتعلم القادة الجدد والقوى التي تقف خلفهم شيئًا من دروس الآخرين، بل درس بشار، وأن تفتح الطريق للتغيير والمصالحة والتعايش الصعب في الشرق الأوسط، وصفقات شاملة تفاوضية اليوم وليس غدًا، بعيدًا عن دوامات العنف والحروب التي لا نهاية لها.
وإذا لم يتم الإسراع بإطفاء الحرائق، فإنّ البديل المحتمل للدبلوماسية هو الحرب الأهلية، وحروب بالوكالة بين القوى الفاعلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل وتركيا وإيران، الأمر الذي سيكون “كارثيًا” على الشعب السوري والاستقرار الإقليمي ومصالح شعوب المنطقة، والقارة الأوروبية العجوز.