استضافت العاصمة السعودية الرياض الاجتماع التحضيري للقمة المرتقبة بين الرئيسين الأميركي دونالد ترمب والروسي فلاديمير بوتن المتوقعة أواخر فبراير (شباط) الجاري.
هذا اللقاء الذي شارك فيه عن الجانب الأميركي كل من وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي في البيت الأبيض مايك والتز والممثل الخاص للرئيس لشؤون الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، وعن الجانب الروسي كل من وزير الخارجية سيرغي لافروف والممثل الخاص للرئيس لشؤون الشرق الأوسط ميخايل بوغدانوف استُبعدت منه الأطراف الأوروبية المعنية بالأزمة الأوكرانية التي تُعد القضية الأساس على رأس جدول أعمال القمة الرئاسية، متقدمة على أزمتي الشرق الأوسط والنووية الإيرانية التي ستكون أحد محاور هذه القمة.
الاجتماعات التحضيرية تزامنت مع إعلان طهران عن مشاروات تجري بينها وعواصم الترويكا الأوروبية لعقد لقاء ثالث في إطار اللقاءات التي بدأت منذ سبتمبر (أيلول) عام 2024 بهدف الاتفاق على آليات إعادة المفاوضات حول البرنامج النووي وإعادة إحياء العمل بالاتفاق الموقع عام 2015 وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران ونظامها.
اقرأ أيضا.. هل سيكون المرشد الأعلى الإيراني المقبل هو الأخير؟
العودة الإيرانية- الأوروبية لتفعيل مسار المفاوضات الثنائية بينهما تأتي في ظل إدراك كلا الطرفين أن أي نتائج قد تتوصل إليها هذه المفاوضات لن تكون ملزمة للجانب الأميركي وأن الطموح الأميركي أو إدارة الرئيس ترمب في إجبار أو جر النظام الإيراني إلى طاولة التفاوض المباشر بعيداً من كل الأطراف بما فيها الشريكان الروسي والصيني باعتبارهما أعضاء في السداسية الدولية (5+1) الراعية للاتفاق النووي.
استبعاد الدول الأوروبية واتحادها من المفاوضات الأميركية الروسية حول مستقبل الحرب في أوكرانيا وما يمكن أن تنتهي إليه من تكريس روسيا أجزاء واسعة من الأراضي الأوكرانية التي سيطرت عليها موسكو وإمكان حصولها على مواقع أخرى في أوديسا، قد يعنيان جرس إنذار أميركي حقيقي حول آليات التعامل بين واشنطن والقارة الخضراء، وأن خطوة التسوية التي يقودها ترمب حول أوكرانيا تضرب المصالح الأمنية والجيوسياسية والجيوستراتيجية لهذه الدول، وقد تشكل بداية مسار جدي لدى واشنطن في التعامل مع مفهوم حلف شمال الأطلسي (ناتو) ومهمته.
هذه المخاوف التي تقترب من الواقع والحقائق قد تسقط جميع أدوات الدفاع الأوروبية في مواجهة سياسات الإدارة “الترمبية” في البيت الأبيض وقد تفرض على عواصم القرار في الاتحاد الأوروبي التي تمثلها فرنسا وألمانيا بصورة أساس وإلى حد ما بريطانيا، اللجوء إلى سياسات جديدة في التعامل مع التوجهات الأميركية بمختلف الملفات الدولية التي تقوم فيها بدور وتملك عليها تأثيراً ما.
وفي هذا الإطار ونتيجة لهذه المخاوف قد تكون طهران المستفيد الأول من تصاعد حدة تراجع الثقة بين طرفي المحيط من بوابة الموقف من الأزمة الأوكرانية، فعواصم الترويكا الأوروبية تملك الورقة المقررة في أي سياسة تصعيدية أميركية في مواجهة الطموحات الإيرانية، فهي الوحيدة القادرة على مساعدة واشنطن في إعادة تفعيل الحصار الاقتصادي الخانق على النظام الإيراني، إذ من المفترض أن تعمل الترويكا الأوروبية على تفعيل مسار إعادة الملف النووي الإيراني إلى مجلس الأمن الدولي وإعادة تفعيل العقوبات الدولية التي عُلقت بموجب اتفاق عام 2015 عبر تفعيل “آلية الزناد – Snapback mechanism” التي تحتاج إليها واشنطن نتيجة خسارتها هذه القدرة بعد انسحاب ترمب من الاتفاق في أبريل (نيسان) عام 2018، إضافة إلى استحالة توصل ترمب إلى صفقة مع موسكو أو بكين للقيام بهذا الدور لما لهذين الطرفين من مصالح استراتيجية في عرقلة الخطط الأميركية من جهة، وما تشكله طهران من بعد استراتيجي في سياساتهما الدولية من جهة أخرى.
التغييب الأميركي للدول الأوروبية الحليفة عن تفاصيل وأبعاد التسوية التي يقودها مع نظيره الروسي وما سينتج منها من تعديل في موازين القوى على الساحة الأوروبية قد يدفعان هذه الدول إلى فتح مسار جدي في الحوار مع إيران والتوصل إلى تفاهمات تشكل أساساً وداعماً لموقف طهران على أي طاولة تفاوض محتمل مع واشنطن في المستقبل. بالتالي قد يسمح لهذه الدول أن تكبح جماح السياسة الأميركية والإدارة “الترمبية” في الملفات الدولية التي لا تأخذ ولم تأخذ المصالح الأوروبية في اعتبارها.
وقد يكون لدى الإدارة “الترمبية” طموح بتحويل قمة الرياض المرتقبة إلى ما يشبه “مؤتمر يالطا” لكن جديد، وهو تشابه ينسحب أيضاً على فبراير تاريخ عقد القمتين الأولى والثانية، وتغيب عنه بريطانيا في الظاهر، إلا أنها ستكون مشاركة نتيجة انسجامها مع السياسات الأميركية في الملفات الدولية. لكن القمة الجديدة ستكون بمحورية مستقبل أوروبا وتداعيات الحرب الأوكرانية والشرق الأوسط بعد التحولات الجذرية التي حصلت على المعادلات السياسية والاستراتيجية التي شهدتها المنطقة نتيجة تراجع المشروع الإيراني وخسارته لكثير من أوراق القوة والنفوذ في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق وإمكان احتواء اليمن.
في المقابل، فإن النظام الإيراني قد ينظر إلى هذه التطورات، سواء في الموقف الأوروبي المتوقع، أو في نتائج القمة الثنائية المرتقبة في الرياض بين بوتين وترمب، بعين الارتياح، وقد يلجأ إلى تنشيط إدارته الدبلوماسية لتوظيف هذه التباينات لمصلحته، بخاصة في هذه المرحلة التي تشهد تصعيداً واضحاً بينه وواشنطن نتيجة توقيع ترمب على المذكرة التنفيذية لإعادة تفعيل العقوبات الاقتصادية القاسية في حال الضرورة.
فالموقف الحازم الذي أعلنه المرشد الأعلى للنظام الإيراني والذي عطل فيه الاندفاعة السياسية الداخلية باتجاه التفاوض مع واشنطن كردّ على الضغوط غير المتوقعة التي فرضها ترمب باستخدام المذكرة التنفيذية التي وقعها، جاء بعد أسبوع من نصيحة للمفاوض الإيراني بضرورة الحذر في التعامل مع المفاوضات وأهداف ونوايا الطرف الأخر على طاولة التفاوض.
الموقف الإيراني وعلى رغم مستوى التصعيد الذي تضمنه، فإنه ترك الباب موارباً لإمكان العودة للمسار التفاوضي في حال أبدت الإدارة الأميركية مؤشرات على إمكان تعطيل هذه المذكرة كتمهيد لإعادة بناء الثقة بين الطرفين بجدوى التفاوض وعدم فرض شروط أو فرض نتائج بناء على هذه الضغوط. بالتالي فإن الرهان الإيراني على ما سيخرج من قمة الرياض قد يكون مرتبطاً ببعدين، الأول يتعلق بمدى جدية التزام الرئيس الروسي بنود “الاتفاقية الاستراتيجية” التي وقعها مع إيران قبل شهرين وأن يقوم بدور إيجابي في دفع نظيره الأميركي إلى تعديل مواقفه بما يسهل فتح الطريق أمام المفاوضات بينه وإيران.
أما البعد الآخر، فيتعلق بالدور الذي من الممكن أن يضطلع به ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إيجاباً في تدوير الزوايا في مواقف الرئيس الأميركي، خصوصاً أن القيادة السعودية لا ترغب في دخول المنطقة بمرحلة جديدة من التصعيد المفتوح على جميع الاحتمالات السيئة والكارثية، بالتالي فإن حرصها على استقرار المنطقة وانتقالها إلى مرحلة من الإقرار بالمعادلات الجديدة الحاصلة يشكلان عاملاً يخدم استراتيجيتها المستقبلية في التنمية والتطور وإعادة ترسيم الأدوار والأوزان الإقليمية، فضلاً عن الحرص الذي تبديه وأبدته القيادة السعودية التي تلتقي مع رغبة إيرانية جدية في تعزيز العلاقات والتفاهمات الثنائية بين الطرفين، بخاصة بعد اتفاق إعادة تطبيع العلاقات بينهما الذي وقع في بكين خلال مارس (آذار) عام 2023 ويلزم إيران عدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة.