وسط فوضى انتقالية، نفَّذ ترامب، في يومه الأول في المنصب -بتاريخ 20 يناير الماضي- تجميدًا لمدة 90 يومًا لمعظم برامج الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في جميع أنحاء العالم، مع وضع جميع العاملين فيها تقريبًا في إجازات إدارية، لاحقًا قررت إدارته إلغاء عمل “الوكالة”، ونقل البرامج الباقية لها تحت إشراف وزارة الخارجية، مع إعلان الشروع في مراجعة كافة برامج المساعدات الخارجية؛ لـ”ضمان توافقها مع السياسة الخارجية” لبلاده في إطار أجندته “أمريكا أولاً”.
تُعدّ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، المنظمة الرئيسية المسؤولة عن إدارة عشرات المليارات من الدولارات من المساعدات الإنسانية في الخارج كل عام، أنشأها الرئيس الأمريكي الأسبق جون كينيدي بموجب أمر تنفيذي في ذُروة الحرب الباردة عام 1961م؛ لمواجهة النفوذ السوفييتي في الخارج، في وقتٍ تحمل فيه أهدافًا معلنة منها: معالجة الفقر العالمي، وتعزيز الحكم الديمقراطي، وتعزيز الاستقرار في المناطق النامية.
وهيكل المساعدات الأمريكية الخارجية مُعقَّد؛ حيث تتولى أكثر من 20 وكالة حكومية تقديمها؛ فالوكالة الرئيسية للمساعدات هي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وهي المسؤولة عن نحو 60% من المساعدات الخارجية، تليها وزارات: الخارجية بنحو 30%، والخزانة بنحو 5%، والصحة والخدمات الإنسانية بنحو 3%، ووزارتا الدفاع والزراعة ومؤسسة تحدّي الألفية بنحو 1%، علاوةً على ذلك، تُعدّ الولايات المتحدة أكبر جهة مانحة للمساعدات الإنسانية على مستوى العالم.
وبرامج المساعدات الخارجية الأمريكية -عمومًا- عادة ما يقابلها انتقادات مِن قِبَل جمهوريين -بمن فيهم ترامب- ممن يرونها غير قانونية وغير أخلاقية ومضيعة للوقت والأموال وتُروّج لأجندة ليبرالية لا تنسجم مع أفكارهم المحافظة، وهو ما يقابله على الضفة الأخرى تحذيرات مِن قِبَل ديمقراطيين جراء العواقب الكارثية لقرار التجميد أو وقف المساعدات.
وكانت أكبر الدول الإفريقية المستفيدة من المساعدات التي تُديرها وزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في السنة المالية 2022م على الترتيب هي: نيجيريا، وموزمبيق، وتنزانيا، وأوغندا، وكينيا، هذه البلدان جاءت في قائمة تضم أكبر 10 دول متلقية لهذه المساعدات على مستوى العالم. في حين جاءت بلدان إثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية والصومال وجنوب إفريقيا ونيجيريا وجنوب السودان، في قائمة الأكبر في السنة المالية 2023م.
ويمكن إجمال أبرز التداعيات والانعكاسات المحتملة في هذا الإطار وفق المحاور التالية:
- بالنسبة للمكانة الدولية والمصالح الأمريكية:
– المساهمة في تآكل القوة الناعمة الأمريكية، في ضوء اعتبار عمل “الوكالة” أمرًا بالغ الأهمية لتعزيز الشراكات الأمريكية مع الخارج؛ إذ قد يُسهم قرار التجميد سلبًا على شراكات واشنطن مع القطاع الخاص في قارة إفريقيا التي تضم بلدانًا من المتوقع لها أن تكون من أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم.
– من المرجَّح أن تؤدي عرقلة الجهود الدولية في مكافحة الفقر، وانتشار الأمراض، ومكافحة الإرهاب، وتدفقات الهجرة -من بين أولويات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية- إلى تكثيف الأزمات الإنسانية في جميع أنحاء العالم.
– أظهرت برامج المساعدات الأمريكية الأخرى -مثل خطة مارشال التي أعادت بناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية- كيف يمكن أن تُؤمّن التحالفات، وتُعزّز المجتمعات والأسواق الحرة، وقد ساعد الرخاء في أوروبا بعد الحرب في تحقيق مزيد من الازدهار لأمريكا.
وهذا يعني أن انسحاب العاملين الأمريكيين في “الوكالة” وغيرها من الوكالات الدولية، بمثابة استبعاد للولايات المتحدة بشكل أساسي من آليات تبادل المعلومات الدولية التي تحافظ على السلامة العامة، وهو ما يعني صعوبة تبادل المعلومات حول التهديدات الصحية الناشئة في الولايات المتحدة مع بقية دول العالم والعكس.
- إفساح المجال أمام التنافسين الدوليين:
– على سبيل المثال، ساهمت مبادرة “الحزام والطريق” الصينية -منذ إنشائها عام 2013م- في مشاريع البنية التحتية في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، مما عزَّز نفوذ بكين الدولي، على غرار دورها في تمويل مشاريع بنية تحتية ضخمة في إفريقيا، بما في ذلك السكك الحديدية في كينيا والموانئ في جيبوتي، مما أعطى الصين نفوذًا كبيرًا هناك، مع خلق موطئ قدم في منطقة ذات أهمية إستراتيجية للولايات المتحدة.
– قد تسعى روسيا أيضًا إلى استغلال الأمر ذاته، في ضوء استهدافها المبادرات الصحية الأمريكية في إفريقيا، أو الاستمرار في نشر الفوضى كما في بلدان الساحل الإفريقي، كما أنها من الممكن أن تكرر خططها في أمريكا الوسطى واللاتينية في البلدان الإفريقية، حين موَّلت حملات تهدف إلى نشر المشاعر المعادية للولايات المتحدة.
انعكاسات تجميد عمل “الوكالة” على بلدان إفريقيا جنوب الصحراء:
تعتمد العديد من البلدان في إفريقيا جنوب الصحراء بشكل كبير على الدعم المقدَّم من الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وثمة تحذيرات من التداعيات والآثار السلبية على صحة ملايين البشر من الأفارقة جراء تجميد عمل “الوكالة” وخروج الولايات المتحدة من منظمة الصحة العالمية، التي تُعدّ واشنطن أكبر جهة دولية مانحة لها؛ حيث تساهم بنحو 18% من إجمالي تمويل المنظمة.
وقد لعبت المبادرات الأمريكية في مجال الصحة، دورًا بارزًا في تحسين وتعزيز النظام الصحي بشكل عام في إفريقيا جنوب الصحراء؛ إذ يوضح (شكل 3) أن ميزانية المساعدات المقدمة لإفريقيا لعام 2024م توزعت إلى: 73% لبرامج الصحة، و14% لدعم النمو الاقتصادي، و5% لبرامج الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم الرشيد، و5% للمساعدات المتعلقة بالسلام والأمن، و3% لتمويل التعليم والخدمات الاجتماعية.
فرص إفريقيا:
ليس أدلّ على إمكانية تحويل البلدان الإفريقية “معاناة” تجميد المساعدات إلى بارقة أمل للخروج من العباءة الأمريكية، مما ذكره الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا، حين رد على إعلان ترامب بالتجميد، وذلك أثناء حضور الزعيم الإفريقي قمة الأمن الصحي العالمي لمنطقة شرق إفريقيا في مومباسا، في 29 يناير 2025م.
كينياتا اعتبر -آنذاك- السلوك الأمريكي “فرصة لقادة إفريقيا لدعم شعوبهم، واستخدام موارد القارة في الأمور الصحيحة بدلاً من الأمور الخاطئة”، قائلاً: “رأيت بعض الأشخاص يبكون؛ لأن ترامب لم يعد يمنحنا المال، لماذا تبكون؟ إنها ليست حكومتكم، وليست بلادكم، ليس لديه أيّ سبب ليمنحكم شيئًا، أنتم لا تدفعون الضرائب في أمريكا، هذا بمثابة جرس إنذار لنا لنسأل: ماذا سنفعل لمساعدة أنفسنا؟”.
وأشار كينياتا إلى حقيقة مفادها أن العديد من الحكومات الإفريقية قادرة على الاستغناء عن المساعدات إذا استخدمت مواردها بحكمة، مشددًا على ضرورة إنفاق الموارد على تمويل المشاريع الصحية بدلاً من شراء الرصاص لقتل المواطنين الأفارقة، وأن الدول الإفريقية كان ينبغي أن تنشئ معاهد بحثية ومصانع لتصنيع اللقاحات، وأن يكون ذلك على رأس أجندتها حتى تكون متاحة بسهولة عند الحاجة إليها.
ما يمكن وصفه بـ”صرخة كينياتا” يتسق مع ما طرحه الأكاديمي المصري البروفيسور حمدي عبد الرحمن حسن، في مقال كتبه بمركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، أكَّد فيه على أن الأفارقة “أمام لحظة تاريخية تشير إلى نهاية العصر الأمريكي في عهد ترامب”.
خلاصة القول:
إن ما تُقدّمه الولايات المتحدة من مساعدات للدول الأخرى، خاصة الإفريقية، ليس مجرد هبة أو منحة، بقدر ما هي آليات واستثمارات تجنيها وتعود عليها بالنفع وتحمي مصالحها الجيواستراتيجية من جهة، ومن جهة أخرى تُضيّق المجال أمام التهديدات الخارجية على غرار الأوبئة والهجرة قبل أن تصل سواحلها.
كما أن تجميد المساعدات أو قطعها، قد يُفْقِد الولايات المتحدة ميزة “القوة الناعمة” في خضم تنافسها مع قوى باتت أكثر قربًا وموثوقية في شراكاتها مع البلدان الإفريقية، وتحديدًا الصين وروسيا، مما يدفعنا إلى القول بأن سياسة ترامب الأخيرة، السلبية منها تجاه إفريقيا، ترقى إلى وصفها بمن أطلق النار على قدميه.