عتقدت نور العلي (20 عاماً) من بغداد، أنها ستنتقل من ربة بيت لا تحمل سوى شهادة الثانوية إلى واحدة من سيدات المال والأعمال وتحقق الربح السريع من خلال دخولها سوق “الفوركس” بعدما أقنعتها صديقتها المقرّبة بذلك، مطلع عام 2021.
تروي كيف أنها عبّرت لها عن رغبتها في إيجاد فرصة عمل عبر الإنترنت لتحظى باستقلالية مالية، لا سيما أن والدها لا يسمح لها بالخروج من المنزل، فاقترحت عليها صديقتها التداول في العملات بمساعدة شقيق لها، قالت إنه خبير في هذا المجال.
ومن أجل بدء خطوتها الأولى نحو تحقيق حلم الثراء، استدانت نور 300 دولار من ابنة عمها، وأرسلتها مع صديقتها إلى شقيقها الذي فتح لها حساباً في واحدة من المنصات وتولّى هو عملية التداول محلها وخلال فترة وجيزة، أخبرها بأنها حققت ربحاً بلغ 700 دولار.
لاحقاً، أكد أنها حصلت على 200 دولار إضافية، فأخذتها الحماسة وارتفع سقف آمالها، خصوصاً عندما عرفت منه أن رأس مالها أصبح 900 دولار. لكن لم يمض طويلاً حتّى أعلمها بالأخبار السيئة، فقد تلقّت خسارة مفاجئة لكل مالها، على حد قوله.
“حتّى أنني لم أستطع إعادة المبلغ الذي استدنته من ابنة عمي”، تقول نور بخيبة وهي لا تعرف كيف جرى كل ذلك، ولِمَ خسرت كل شيء دفعةً واحدة. بعد تجربتها تلك، أدركت أن التداول بالعملات في الإنترنت يتطلب خبرة ودراية والكثير من الممارسة، وأن من المهم أن يقوم المرء بذلك بنفسه “لكن بحذر شديد”. وهي لا تستبعد عودتها لهذا المجال في المستقبل “لكن عليّ الآن البحث عن عمل أسهل وأقل مخاطرة للقيام به عبر الإنترنت، بشرط ألّا أدفع شيئاً”.
قد لا تبدو خسارة نور في مجال التداول المالي الإلكتروني فادحة، قياساً بآخرين تكبّدوا خسائر مالية كبيرة. لكن ما حدث لها، سيناريو يكاد يكون مشابهاً للكثير من ضحايا هذا السوق المتنامي في العراقي، وفقاً لمتعاملين بالمجال المالي يعتبرون الأمر برمته مغامرة وأن لا شيء مضمون في نطاق التعامل بالمال سواءً كان نقدياً أم مشفّراً.
يذكر عدد من هؤلاء كيف أن هناك من يقوم بعملية التداول بنفسه من باب التجربة والمجازفة، فينشئ حساباً على موقع واحدة من شركات التداول، ويملأ النماذج المتوفرة بالمعلومات اللازمة ويؤكد البريد الإلكتروني ويرفع الوثائق الرسمية والشخصية المطلوبة، ثم يحصل على نصائح من وكلاء الشركة. أو كيف يتم الأمر عبر وسيط، يقوم بتنظيم تلك العملية مقابل نسبة من الأرباح، كما حدث مع نور، ويحدث مع كثيرين غيرها، حيث بسبب قلة الخبرة ووجود شركات احتيال كثيرة يقع العديد من هؤلاء ضحايا ويتكبّدون الخسائر.
ويرى خبراء أن الرابحين في هذه السوق المتنامية في العراق هم “المحترفون في هذا المجال والمسوِّقون وبائعو كورسات التعليم ووسطاء الشركات. وهم في غالبيتهم ليسوا عراقيين، ويصلون إلى المواطنين العراقيين عبر وكلاء عراقيين ينشطون عبر مواقع التواصل الاجتماعي”.
ما هو “الفوركس”؟
الفوركس ببساطة هو سوق العملات الأجنبية أو البورصة العالمية للعملات الأجنبية، والمصطلح مزيج من أول حرفين لكل كلمة للمصطلح الاقتصادي من اللغة الإنكليزية “Foreign Exchange” أي صرف العملات الأجنبية، وهو سوق يمتد في جميع أنحاء العالم حيث تُصرف العملات من قبل عدة مشاركين، مثل البنوك العالمية والمؤسسات الدولية والأسواق المالية والمتداولين الأفراد.
ويذكر الباحث في الشؤون الاقتصادية العراقية والدولية، إيفان شاكر الدوبرداني، أن الفوركس (FX) أكبر سوق في العالم من حيث التداول، ويلفت إلى وجود نوعين من المعاملات التي تجري فيه، “المعاملات الفورية والعقود الآجلة”، ويقدر أعداد المتداولين عبره في العراق بنحو مليون متداول “غالبيتهم من فئة الشباب من عمر 20 إلى 30 عاماً من الجنسين”.
أما الخبير الاقتصادي منار العبيدي، فيقول إن بإمكان أي شخص التداول في الفوركس لأنه “تجارة تسمح للعديد من شركات الاستثمار والبنوك وسماسرة التجزئة للأفراد بفتح حسابات وتداول العملات في سوق الفوركس”.
كما يذكر أن بامكان المستثمر أو المتداول “شراء أو بيع عملة بلد معين، مقارنة بعملة أخرى ولكن لا يوجد تبادل فعلي للأموال من طرف إلى آخر كما هو الحال في محلات الصرافة. ففي عالم الأسواق الإلكترونية عادة ما يتخذ المتداولون مركزاً في عملة معينة على أمل أن يكون هناك حركة صعودية وقوة في العملة التي يشترونها أو الضعف إذا كانوا يبيعونها حتى يتمكنوا من تحقيق الربح”.
ووفقاً لدراسة أعدتها مؤسسة عراق المستقبل، فإن الاستحواذ على تجارة الفوركس من خلال عمليات تداول العملات الأجنبية، تتم في خمسة مراكز مالية رئيسية حول العالم، إذ تحدث 79% منها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة وهونغ كونغ وسنغافورة واليابان. وتعد المملكة المتحدة أكبر مركز تداول العملات الأجنبية.
ويقدر رئيس هيئة الأوراق المالية العراقية، فيصل الهيمص، حجم تداول شركات الفوركس مجتمعة في العراق حتى عام 2023 بنحو 900 مليون دولار، وقد صرّح في حديث متلفز بأن “جميعها غير مرخصة”، وأشار إلى وجود مستثمرين في السليمانية بنحو 100 مليون دولار أواخر عام 2023.
وأضاف أن هيئة الأوراق المالية بوصفها الجهة المعنية لم تقم بمنح ترخيص لأي من هذه الشركات، وأن لجنة شكلت قبل أشهر مؤلفة من ممثلين عن البنك المركزي والأمن الوطني ووزارة الداخلية والاستخبارات فضلاً عن الأوراق المالية، وذلك بناء على طلب من رئاسة الوزراء للنظر في عمل هذه الشركات.
وقال إن عمل اللجنة تركز على “إيجاد آلية تشرعن عمل شركات الفوركس”، منها أن تقدم ضمانات مالية إلى هيئة الأوراق المالية”، بوصفها الجهة المعنية بترخيص تداول العراقيين للأموال داخل العراق وخارجه. وأكد أن إيجاد آلية لعمل هذه الشركات هدفه “حماية المواطنين المتداولين من خلال الضمانات المالية التي ستقدمها تلك الشركات”.
واعتبر أن هذا هو الحل الوحيد لمعالجة مشكلة الشركات الوهمية وعمليات النصب والاحتيال التي يتعرض لها المتداولون، واستدرك: “ليست جميع شركات التداول غير قانونية، فبعضها مسجلة لدى سجل الشركات ولكن ليس لممارسة هذا النوع من العمل”.
وفي 7 تموز/ يوليو 2024، رفع البنك المركزي العراقي ورقة بعنوان “مشروع نظام التجارة الإلكترونية” إلى مجلس الوزراء العراقي لإقراره، وذكر مدير البنك علي محسن العلاق في تصريح صحافي أن ذلك يأتي بناء على الأمر الديواني 24079 لتنظيم التجارة الإلكترونية. وقال إنها تركّزت على ضوابط منح الرخصة للراغبين في ممارسة التجارة الإلكترونية بما يحفظ حقوق الأطراف كافة.
ويشهد العراق – وفقاً لاستطلاع رأي نفّذته مؤسسة عراق المستقبل في 2019 – تزايداً في أعداد المستثمرين العراقيين الذين يعتمدون على وسطاء أجانب موجودين خارج البلاد، أو من خلال بعض شركات الوساطة التي تعمل بنحو غير قانوني حالياً داخل العراق، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال الإعلانات التجارية سواء التي توزع داخل مرافق عامة أو في وسائل التواصل الاجتماعي.
وتتوقع المؤسسة أن يبلغ حجم الطلب على الاستثمارات في سوق فوركس أكثر من 94 مليون دولار سنوياً وبنسبة نمو سنوية في حجم التعاملات 9.8%. وبوضع نسبة النمو السكاني في العراق والبالغة أكثر من 2.8% سنوياً، في الاعتبار، فإن حجم التعاملات السنوية يمكن أن يصل إلى 130 مليون دولار خلال السنوات العشرة القادمة.
الجدول أعلاه بحسب دراسة أعدتها “مؤسسة عراق المستقبل” (اختصاصها إدارة الاستثمارات).
ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن هناك شركات وساطة مالية كثيرة تنشط في العراق وأنها تعمل بدون غطاء قانوني وهي تمتلك مكاتب موجودة في مختلف المحافظات لكنها تخفي عملها الحقيقي تحت غطاء مكاتب استشارية أو أكاديميات للتعلم.
ويلفتون إلى أن عدداً منها قامت بتصميم ونشر الإعلانات عبر السوشال ميديا لجذب المستثمرين إليها وأن هناك طلباً متزايداً في السوق العراقي على هذه التجارة خصوصاً مع ارتفاع العملة النقدية المصدرة والتي بلغت أكثر من 70 ترليون دينار، الأمر الذي شكّل عاملاً مهماً في زيادة الاستثمارات في هذا المجال.
آلية التداول
الطريقة الشائعة للتداول تكون عبر منصة التداول المستخدمة من قبل المتداولين حول العالم منها (Metatrader 4 وMeta trader 5 وC trade)، لتداول العملات مثل الدولار وكذلك الذهب والنفط والفضة وبقية المعادن والأسهم.
وعلى الرغم من أن الكثير من العراقيين يتداولون العملات الرقمية مثل البتكوين وغيرها، إلا أن التعامل معها مُنِع بقرار من البنك المركزي العراقي. ويخضع المتعاملون بها لأحكام قانون غسل الأموال رقم (39) لعام 2015 والقوانين ذات العلاقة بهذا الخصوص. لكن مع ذلك، التداول ما زال قائماً.
ويشير متداولون تواصلت معهم معدة التحقيق إلى أن عملية المباشرة بالتداول في السوق تتم عبر الدخول إلى منصة توفرها شركة مرخصة، من قبل دول مثل الولايات المتحدة أو أستراليا أو غيرهما، أو وسيط مرخّص يكون حلقة الوصل بين المتداول والسوق العالمي، لإيداع رأس المال وسحبه من خلاله.
وبعد التأكد من توفر الضوابط القانونية للشركة يقوم المتداول بتسجيل بياناته ويرفق الأوراق الثبوتية في المنصة ثم يودع أمواله ويبدأ العمل. ويشدد هؤلاء المتداولون على أنه في حال كان الوسيط “مرخصاً، يمكن للمتداول الانسحاب في أي وقت مع أمواله التي أودعها بدون أي نقص، لأن حسابه المالي مرتبط مباشرةً بمزود السيولة العالمي مع البنوك والمصارف العالمية”.
الدارج في العراق هي الشركات غير المسجلة وبعضها وهمي، ومعظمها تتبع نظام تسلسل هرمي إذ أن هناك شخصاً يعرف بـ”الليدر” يتواصل مع الضحايا المحتملين ويغريهم بأرباح كبيرة، ويحصل مقابل كل شخص يأتي به للتداول على نسبة هي 10%، وتقدم له الشركة مكافأة في حال جلب عدداً معيناً من المتداولين، وكل متداول يجلب متداولاً آخر تحسب له أيضاً نسبة 10% ولهذا يُسمى التداول بهذه الطريقة بـ”التداول الهرمي أو التسويق الشبكي”.
وعادة ما يسلم المتداول مبلغا نقدياً من المال للوسيط أو “الليدر”، ومن ثم يتلقى في محفظته الأرباح المفترضة، ولزيادة سرعة تراكم الأرباح يقوم بعض المتداولين، باستثمار مبالغ أعلى، لكن ما يحدث في النهاية، بعد أن تحصل الشركة على عدد كبير من المتداولين الذين قدموا أموالاً بالفعل، تختفي فجأة مع وسطائها ولا يبقى لمنصتها أو صفحاتها في وسائل التواصل الاجتماعي أي أثر.
خبير التداول علي يحيى يقول : “لا توجد هيئة عالمية واحدة تحكم وتراقب سوق الفوركس العملاق بينما تشرف العديد من الهيئات الحكومية والمستقلة على تداول العملات الأجنبية في جميع أنحاء العالم. تمنحها الهيئات الإشرافية شهادات وتراخيص للوسطاء وبعد التأكد من استيفائهم للمعايير المطلوبة مثل عمليات تدقيق منتظمة والتقييم المتكرر وهذا يساعد على ضمان أن تداول العملات أخلاقي وعادل لجميع المشاركين”
وهو يلفت إلى أنه في العراق توجد “شركات وساطة دولية مستوفية للشروط، وتعمل في العديد من الدول وتملك شهادات ورخص معترف بها عالمياً لضمان العمل العادل”، ويضرب مثالاً على واحدة من هذه الهيئات بـ”لجنة تداول السلع الآجلة (CFTC) وهي وكالة مستقلة تابعة للحكومة الأمريكية، التي تنظم التداول بالفوركس”.
نصب واحتيال
“التداول شيء، ومنصات الشبكات الهرمية شيء آخر”، هذا ما يقوله يونس فتحي عبد الله (31 عاماً) من مدينة الموصل، مضيفاً “عرفت هذا بعد فوات الأوان”. يذكر المواطن العراقي أن صديقاً له اتصل به عام 2021 وأخبره بأنه يستطيع استثمار ماله في منصة تداول ربحها مضمون، وأنها هي من ستقوم بالتداول عنه وتعمل جاهدة على منع الخسارة.
“دفعت أول مرة 8000 دولار، وكنت أدخل إلى حسابي كل أسبوع وأجد أنني حققت ربحاً بين 200 إلى 300 دولار، وانتقلت بسرعة إلى رصيد 20 ألف دولار، وهذا ما جعلني افتح حساباً لزوجتي بذات المبلغ (8000 دولار)، وصار الحسابان يحققان الربح المنتظم، وكبرت أحلامنا”.
الوسيط فتح مجموعة للمشتركين في تطبيق واتساب و”كلما ارتفع رصيد أحدنا، يقول له مبروك لقد أصبح رصيدك 10 ألف دولار أو 50 ألف دولار”ي. صمت قليلاً ثم يواصل: “كلمة مبروك كانت الشيء الوحيد الذي حصلت عليه!”.
بعد فترة، أوقف الوسيط خاصية التعليقات في مجموعة الواتساب، ولا سيما بعد إلحاح المشتركين في السؤال عن كيفية سحب أرباحهم، ثم تم إيقاف إظهار الأرباح في حساباتهم الخاصة. ومنذ 2022، ينتظرون، بمن فيهم يونس، سماع شيء جديد يتعلق بأموالهم المجمدة في المنصة. “لسنا قادرين على سحبها، ولا هم يغلقون المنصة ويريحونا من الوهم الذي أغرقنا أنفسنا به”، يختم يونس.
بسبب غياب القوانين ذات الصلة، فإن الكثير من وسطاء المنصات التي تتدّعي ارتباطها بسوق الفوركس، يمارسون أعمال نصب واحتيال، وعراقيون كثر وقعوا ضحايا لهم وتكبّدوا خسائر تقدر بمئات الملايين من الدولارات، وفقاً لرئيس هيئة الأوراق المالية العراقية.
يذكر الهيمص أن حالات نصب عديدة وقعت في العراق خلال السنوات المنصرمة منها قيام شركة Unique Finance غير المرخصة بالاستيلاء على ما يقدر بـ120 مليون دولار، ثم هرب صاحبها إلى جهة مجهولة. وهناك من المتداولين من أكد لمعدة التحقيق أن الرقم أكبر من ذلك بكثير، وأنه يصل إلى 950 مليون دولار، وأن آلاف العراقيين كانوا قد استثمروا أموالهم في هذه الشركة، ولم يتسن لمعدة التحقيق تأكيد الرقم من جهة رسمية.
وذكر متداولون أن شهر تموز/ يوليو 2024، شهد تداول مواقع التواصل الاجتماعي في نينوى، خبر عن توقف منصة تداول هرمية تدعى “ليندا”، تكبّد آلاف المواطنين خسائر قُدِّر مجموع مبالغها بعشرات ملايين الدولارات. في حين يؤكد متداولون يقدمون أنفسهم على أنهم ذوو خبرة أن سبب تعرض الكثير من أقرانهم إلى “النصب والاحتيال” هو عدم امتلاكهم الخبرة الكافية، وعدم قدرتهم على التمييز بين الشركات الرصينة والاحتيالية.
يشير المتداول أحمد العزاوي (25 عاماً) من البصرة، إلى أن هناك شركات، يسميها “أوفلاين”، غير مربوطة بالسوق العالمية مباشرة ولا بالبنوك والسيولة العالمية ويعدها “وهمية تقوم بسرقة أموال المتداولين وتهرب في أي لحظة ويستحيل الحصول على أي تعويض منها”.
ويوضح: “يحصل الاحتيال عندما يقوم المتداول بفتح صفقة عبر المنصة ويقوم الطرف المحتال بالتلاعب بالبيانات ولأن الشركة غير مرتبطة مباشرة بالسيولة العالمية فإن المتداول يخسر رأس ماله وأرباحه أو قد يطلب المحتال من المتداول دفع ربح تعجيزي ليبقى متمسكاً برأس مال المتداول ويستغله للعمل في مجالات أخرى مع ضمان خسارته، وقد يقوم بإدخال أموال أخرى من مكان آخر لزيادة أموال المتداول بهدف خداعه وتحفيزه على إيداع أموال أكثر”.
وينوه العزاوي إلى أن “عملية النصب والاحتيال تختلف عن الخسائر المالية التي تحصل بسبب خطأ المتداول نفسه بسبب قلة خبرته، لأن الشركات الرصينة الحقيقية تعمل من خلال وسيط عالمي ويمكن في أي وقت سحب الأرباح بدون قيود”.
العزاوي دخل مجال التداول عن طريق صديق التقى به عام 2019 وحدثه عن شركة استثمار أموال هي Unique Finance، وكان أقل مبلغ للتداول فيها آنذاك هو ألف دولار بمقابل أرباح يومية تتراوح من 2 و5 دولار وبمعدل شهري 50 إلى 70 دولار شهرياً.
“سجلت بألف دولار، وبقيت أتعامل معها بين سنتي 2019 و2020، وكانت تتواصل معي وأستلم منها الأرباح لكن خلال فترة كورونا اختفت الشركة وأغلقت موقعها عبر الإنترنت وبعد البحث تبيّن أنها وهمية تأخذ من مجموعة وتعطي لأخرى”.
تعرّض العزاوي وآخرين غيره إلى خسارة مالية كبيرة، ويقول: “تقبلت الخسارة في تجربتي الأولى لكنني لم أتراجع بل زادت رغبتي أكثر في التداول وتعلمت وأصبحت أميز بين الشركة الحقيقية والوهمية ومستمر في التداول وأعده مصدر دخل ثان، ولو كانت أرباحي بسيطة”.
يعتقد العزاوي أن عمليات الاحتيال التي استغلت اسم الفوركس وجهل الناس به، أثّرت على تجارة الفوركس الحقيقية، ويضيف:” كل الوسطاء المرخصين من قبل الهيئات المالية المختلفة خاضعين لقوانين دولية، وينبغي التمييز بينهم وبين المحتالين”.
شركات وهمية
حسين السعيدي (27 عاماً) متداول بالعملات المشفّرة، يقول إنه فهم آلية التداول من خلال كورسات تعليم عبر يوتيوب، وأكد أن الكثير من المتداولين يقعون ضحايا للشركات الوهمية التي تستغلهم من خلال التلاعب بالأسعار وتسبب لهم خسائر مالية وضياعاً لرؤوس أموالهم “لأنها أساساً لا تربطهم بسوق الفوركس”.
يقول أيضاً إن بعض المتداولين وعلى الرغم من خسارتهم، يعودون للتداول مجدداً وبمبالغ أكبر من التي خسروها، بهدف محاولة تعويض خسارتهم “لكن هذا تصرف غير صحيح ويضاعف الخسارة”. ويضيف أن الإعلانات التي تروج لها الشركات تُغرى المتعاملين بفوائد كبيرة مزعومة لعملية التداول عبرها “وهو أمر مغر للكثيرين من الحالمين بالثراء، لكنهم لا يعرفون أنهم مجرد ضحايا عمليات نصب”.
ويرى السعيدي أن الإعلانات الترويجية ولا سيما التي تنشر في وسائل التواصل الاجتماعي، تستهدف الشباب بنحو خاص “إذ يندفع الكثير منهم للتسجيل والبدء بالتداول بدون خبرة أو معلومات بشأن سوق التداول”. وعن تجربته يقول: “أنا شخصياً تسرّعت كثيراً في التداول وعلى الرغم من الخسارة المالية التي تكبدتاها، لكنني أعتقد أنها تجربة مفيدة، وتوفر مصدر دخل إضافي إذا تمت بموجب إدارة مالية جيدة بعد فترة تعلم طويلة قد تستغرق سنوات ليحمي المتداول نفسه من الشركات الوهمية والخسائر المالية، وبدون ذلك لا يمكن النجاح”.
يصف الباحث في الشؤون الاقتصادية العراقية والدولية، الدوبرداني، الفوركس بالتجارة “الخطرة حول العالم” لأنها تتطلب كما يقول “الكثير من المقومات لدخولها وممارستها” ومن المقومات التي يتحدث عنها “الإلمام بالتحليل الفني والأساسي الاقتصادي، وإدارة المخاطر”. ويشير إلى أن هذا لن يتحقق إلا بعد مرور فترة زمنية طويلة من الممارسة.
وكان البنك المركزي العراقي قد انتبه إلى ما تشكله الشركات الوهية من مخاطر، ونشر تعميماً في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 بمنع التعامل مع شركات المداولة في سوق الفوركس إلا بعد التأكد من كونها مرخصة من الجهات القطاعية.
إعلانات موجهة للنساء
يعد الترويج بواسطة إعلانات تنشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وبعضها إعلانات ممولة، الطريقة الأكثر شيوعاً التي تستهدف بها شركات الفوركس العملاء المحتملين لها، وبمجرد التسجيل (أونلاين) في واحدة من منصاتها، يبدأ ممثلو الشركات بالتواصل مع الراغبين بالتداول.
ويلاحظ أن للفوركس مساحة إغراء موجهة للنساء تحديداً، فالإعلانات والشروحات تصور تحقيق الأرباح المالية الهائلة بدون الاضطرار للخروج من المنزل أو بذل جهد وعناء، ويكفي أن تمتلك المتداولة هاتفاً محمولاً فقط لتتمكن من القيام بذلك.
يقول الباحث الاجتماعي، قيس باسم، إن المرأة في العراق تشارك بنحو محدود في قطاعات العمل المختلفة بسبب الطبيعة القبلية لمعظم المناطق العراقية “لذا فإن الكثير من النساء وإن سمح لهن بإكمال دراستهن الأولية وحتى الجامعية، يكون المنزل هو المكان الذي يستقرين فيه، ولهذا توجه إعلانات الفوركس إليهن، لاستغلال رغبتهن في الاستقلال المادي، ومحاولتهن تعويض حرمانهن من النشاط الاقتصادي خارج أسوار المنازل وواجباته”.
وتذكر الخبيرة الاقتصادية، سلام سميسم، أن “ضعف الوعي الاستثماري في العراق في قضايا الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية والجهل العام بسوق التداول أسهم في تنشيط عمليات النصب والاحتيال وضياع أموال المواطنات من قبل شركات وهمية ومحتالين يستولون على أرصدة المتداولات وهو يعد جريمة تستوجب تدخل الأجهزة الأمنية لحماية النساء وحقوقهن”.
وتذكر أن عملية التداول خطرة كونها معرضة للخسائر المالية الكبيرة بدون تعويضات للمتداولين/ات، وهذه طبيعة سوق التداول “ربح وخسارة” وفي ظل غياب الوعي بقواعد وطبيعة سوق الفوركس يصبح المواطن “ضحية للمحتالين وبالتالي ضياع رأس ماله ولن يحصل على أي تعويض لأن الشركة أصلاً كانت وهمية والشخص الوسيط أو الوكيل من خارج العراق”.
غياب التنظيم القانوني
الأكاديمي المختص بالقانون من جامعة ذي قار د. قتادة صالح، يؤكد أن ما يتعرض له المواطنون من خسائر مالية جراء تعاملهم مع شركات تداول رقمي وهمية هي “جريمة نصب واحتيال يعاقب عليها قانون العقوبات العراقي رقم 111 لعام 1969”.
“دفعت أول مرة 8000 دولار، وكنت أدخل إلى حسابي كل أسبوع وأجد أنني حققت ربحاً بين 200 إلى 300 دولار، وانتقلت بسرعة إلى رصيد 20 ألف دولار، وهذا ما جعلني افتح حساباً لزوجتي بالمبلغ نفسه (8000 دولار)، وصار الحسابان يحققان الربح المنتظم، وكبرت أحلامنا”… ثم ماذا؟ عن النصب عبر تجارة “الفوركس” في العراق
ويرى أن أركان الجريمة الثلاث متوافرة “المادي والمعنوي والشرعي”، وأن هذا ينطبق على الأشخاص الذين يقومون بعملية الاحتيال على الآخرين إذ “تعاقب المادة 456 من قانون العقوبات العراقي بالحبس كل من توصل إلى تسلم أو نقل حيازة مال مملوك للغير لنفسه إلى شخص آخر باستعمال طرق احتيالية أو اتخاذ اسم كاذب أو صفة غير صحيحة عن واقعة معينة، مما يؤدي إلى خداع المجني عليه”.
ويستدرك صالح: “حتى وإن كان التعامل أو الوسيلة المستخدمة للنصب والاحتيال الكترونية فهي تعد وسيلة متطورة والمبدأ العام في هذه الحوادث يؤكد أنها جريمة تخضع للمادة 456 والقانون العراقي”.
ويشير إلى أن القانون العراقي هو القانون المختص “حتى وإن كان الشخص الذي قام بجريمة والنصب والاحتيال غير عراقي ومقيماً في دولة أخرى”، شارحاً “لأن الفعل الجرمي قد حصل بصورة تامة أو وقع جزء منه في العراق”. غير أن صالح يقر بأن “الصعوبة تكمن في تنفيذ إجراءات التحقيق وإلقاء القبض والمحاكمة وهذا يتعذر إلا بوجود حالات استثنائية مثل اتفاقيات ثنائية بين دولتين”.
وفي حال وقع المواطن ضحية لعملية نصب واحتيال من قبل مواطن عراقي آخر”كالذي يجمع أموالاً بحجة استثمارها ومن ثم يهرب بتلك الأموال مع الأرباح أو بدونها، فهنا يخضع الجاني لقانون العقوبات العراقي وتنفذ بحقه المادة 456 من القانون ويحاكم من قبل القضاء العراقي ويعد فاعلاً أصلياً ومرتكباً لفعل الجريمة حتى لو كانت هناك شركة وهمية، يعمل وكيلاً أو وسيطاً لها، وبإمكان الضحايا طلب الشكوى أمام الجهات المختصة”.
ويقول صالح أيضاً: “إذا كان الوسيط أو الوكيل لشركة وهمية من الجنسية العراقية ولا يعرف هوية الشركة وتعامل معها بحسن نية وقامت الشركة بسرقة أموال المستثمرين فهو يعد مسؤولاً جزئياً وينطبق عليه نص المادة 456 من قانون العقوبات ويقع على عاتقه إثبات حسن النية وإذا لم يستطع فيعد فاعلاً أصلياً وحتى ولو أثبت حسن نيته فهو يبقى مسؤولاً مدنياً أمام الأشخاص الذين سُرِقت أموالهم”.
في الأثناء، يؤكد الحقوقي، علي عبد الأمير، عدم وجود أي تشريع قانوني ينظم عمل شركات التداول في سوق الفوركس داخل العراق وبذلك لا يمكن للشركات “غير الوهمية” أن تودع ضمانات مالية لهيئة الأوراق المالية لممارسة هكذا أعمال، لضمان حماية حقوق المواطن المتداول.
ويشدد على ضرورة إصدار تشريعات قانونية تنظم تجارة الفوركس المتزايدة في العراق سيما وأنها يمكن أن تستخدم في تهريب العملة إلى خارج البلاد أو تغذي الإرهاب أو القيام بأي أعمال مخالفة للقانون بما في ذلك غسيل الأموال.
وكان المصرف العراقي للتجارة قد نشر تنويها لعملائه، أكد فيه منع استخدام البطاقات والمحافظ الإلكترونية لغرض المضاربة والتداول بالعملات الرقمية بجميع أنواعها لما يترتب عليها من مخاطر على المتعاملين بها وإلحاق الضرر بالاقتصاد الوطني ولأجل ضمان التطبيق الأمثل لإجراءات العناية الواجبة المشار إليها في قانون مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب رقم (39) لعام 2015 والتعليمات الصادرة بموجبه.
ماذا يتوجّب على المتداولين فعله؟
ينصح الخبير الاقتصادي منار العبيدي المتداولين بضرورة التحقق من خلفية الشركة قبل الاستثمار فيها، ويقترح أفضل طريقة للقيام بذلك من خلال زيارة المواقع التنظيمية المختلفة مثل (FCA أو CFTC أو PRA أو NFA). يقول: “تجيب غالبية الشركات على استفسارات العملاء دون أي تردد وتنشر المواد المتعلقة بأمان الأموال”.
كما ينصح خبراء آخرون بقيام الجهة الحكومية المعنية بترخيص عمل شركات التداول مقابل ضمان اعادة بعض أو جزء من أموال المستثمرين في حال الإخلال بها والتعامل مع المؤسسات المالية العالمية الرصينة في مجال تجارة الفوركس ومراقبة المعاملات المالية من جهة رقابية مسؤولة وتفعيل مكافحة غسيل الأموال.
وكذلك تكثيف حملات التثقيف ورفع الوعي المجتمعي بشأن مخاطر التجارة وكيفية التعامل معها وإصدار تعليمات تداول رسمية ونشرها ليعرف المستثمر حقوقه وواجباته ومكافحة الإعلانات المضللة التي تنتشر عبر السوشال ميديا.
نقلا عن رصيف 22