الجزائر

تبون يعلن الحرب على الخبز الفرنسي و يعيد إحياء مشروع بومدين..

بالعودة للتاريخ الاقتصادي الجزائري الحديث، قرر بومدين منذ سنة 1970 شن حرب اقتصادية ضد الخبز الفرنسي، عبر توجيه المستهلِك الجزائري نحو مشتقات القمح الصلب، المصنف (علميا وعالميا) ضمن الأحسن، من جميع النواحي، إضافة لكونه (مقارنة مع القمح اللين) الأكثر إنتاجا في تاريخ الجزائر، بسبب جودة التربة والمناخ.

قبل استشراف مستقبل هذه الحرب الاقتصادية الثانية، يجب أولا العودة للمعركة الأولى، سعيا لمحاولة تجنب تكرار نفس أسباب فشلها، أو بالأحرى إفشالها عمدا من طرف العصابات المالية والاقتصادية التابعة مباشرة لمخابر المخابرات الفرنسية..

اندلعت تلك المعركة الاقتصادية الأولى خلال العهد الذهبي للدولة الجزائرية الفتية (زمن بومدين) عندما حاول صناع القرار الاقتصادي آنذاك تخفيض استهلاك القمح اللين، بتنسيق بين وزارتي الصناعة والفلاحة، عبر الشركات الوطنية التابعة لهما، المعنية مباشرة بهذه الحرب.

سبب إعلان تلك الحرب هو اكتشاف الخبراء الاقتصاديين الجزائريين (الوطنيين المخلصين، لا العملاء المأجورين) عمق تبعية البلاد للفلاحة الفرنسية في ميدان القمح اللين، فنتيجة 132 سنة كاملة من الاحتلال، تأثرت عادات الاستهلاك لدى سكان المدن الجزائرية (الذين كانوا الأكثر احتكاكا بالغزاة المعتدين) باستهلاك الخبز الفرنسي.

ثم زاد الطينَ بلةً، بعد الاستقلال، نزوحٌ ريفيٌ فوضوي رهيب نحو المدن، بحثا عن العمل والاستقرار والعيش الرغيد الراقي.

لكن الغريب في الأمر أن بعض سكان الأرياف (رغم تمسكهم بالبقاء فيها) سرعان ما تبعوا نظراءهم في المدن في هذا المجال، باستغنائهم طوعا أوكرها عن الخبز المتنوع، المحضَّر على أساس السميد، المشتق من القمح الصلب (واسع الانتشار تاريخيا في الجزائر).

مع الإشارة أن كل الدقيق العادي (المشتق من القمح اللين) يوجَّه إلى صناعة الخبز في شكله الفرنسي، بينما يمكن تخصيص الدقيق الرفيع لصناعات أخرى مختلفة، فنسبته ضمن مجموع الدقيق (العادي والرفيع) تبقى جد هامشية.

بالعودة للتاريخ الاقتصادي الجزائري الحديث، قرر بومدين منذ سنة 1970 شن حرب اقتصادية ضد الخبز الفرنسي، عبر توجيه المستهلِك الجزائري نحو مشتقات القمح الصلب، المصنف (علميا وعالميا) ضمن الأحسن، من جميع النواحي، إضافة لكونه (مقارنة مع القمح اللين) الأكثر إنتاجا في تاريخ الجزائر، بسبب جودة التربة والمناخ.

بذلت الدولة جهودا استثنائية خلال الفترة بين 1970 و1980، إذ تم إقامة حوالي 4500 طن، كطاقات تحويل إضافية في اليوم، سرعان ما تم تشغيلها بفضل جهود استثمارية عمومية ضخمة.

كما أنجزت (SEMPAC) المؤسسة الوطنية المحتكِرة آنذاك لمشتقات الحبوب أو صناعات تحويل الحبوب وتصنيع مشتقاتها مخطط استثمار طموح، ابتداءً من منتصف السبعينيات، في إطار سياسة التصنيع التي انتهجتها الجزائر حينها، فقلصت كثيرا من تبعية البلاد في ميدان تحويل الحبوب (القمح بنوعيه).

حظيت كل مناطق البلاد بحصص معتبرة من الطاقات الصناعية لتحويل الحبوب، بالتعاون مع أشهر صانعي التجهيزات الصناعية الألمان والسويسريين والإيطاليين.

ثم تم فتح مدرسة البليدة المتخصصة في هذا النشاط الصناعي كإجراء مصاحب، فكانت مدرسة مرجعية وحيدة عربيا وإفريقيا.

أما مصنع ”الصومعة- البليدة” (الذي كان في مرحلة الإنجاز، بهدف تصنيع أهم التجهيزات الصناعية الأساسية في هذا الميدان، كنتيجة لهذا التعاون) فقد دمره الإرهاب، خلال السنوات الأولى من عشرية الدماء في التسعينيات.

هل نجحت تلك الحرب الجزائرية الأولى ضد الخبز الفرنسي؟

للأسف لا، فقد أعقب وفاة بومدين ردة اقتصادية وتراجع واضح عن كل مخططاته، فتم عمدا إجهاض كل محاولاته الجادة للتخلص من التبعية الغذائية للخارج (خاصة فرنسا)، إذ شهد الاستهلاك منذ بداية الثمانينيات ارتفاعا صاروخيا وبذخا جنونيا، فتم تحويل البلاد فجأة من ورشة كبرى للبناء (زمن بومدين) إلى مجرد سوق واسعة للاستهلاك (زمن الشاذلي)، كما هو الحال للأسف الشديد في دول الخليج حاليا، إذ رجع الجزائريون (بتخطيط فرنسي سري ماكر، نفذه بمهارة شيطانية عملاؤها داخل البلاد) إلى الخبز الفرنسي.

هل ستنجح الحرب الجزائرية الثانية ضد الخبز الفرنسي؟

نعم، شرط التزام خطة واضحة ودقيقة، تستثمر بذكاء في المتغيرات المحلية الحالية والصراعات الجيو-اقتصادية العالمية، إذ لا بد أن ترتكز هذه الخطة على ما يلي:

1 / إرادة سياسية قوية وجادة.

2 / بذل جهود ميدانية متواصلة.

3 / الصبر والمثابرة والتصميم.

4 / استغلال الأزمة التي تعرفها السوق العالمية للقمح اللين منذ 2022، خاصة بعد حربي أوكرانيا وغزة، ثم دخول الحوثيين على الخط، باستهداف السفن التجارية في البحر الأحمر والمحيط الهندي، مما أدى إلى اضطراب تموين السوق الجزائرية ، بما في ذلك المشتقات المستخرَجة من القمح اللين، خاصة الدقيق العادي الموجه لصناعة الخبز.

روسيا وأوكرانيا تتحكمان في 13%و3% على التوالي من المساحات المزروعة بالقمح اللين في العالم.

كما تحتل روسيا المرتبة الأولى عالميا في تصدير القمح اللين، مع امتلاكها حاليا مخزونا من هذا النوع من القمح يقدر بـ92 مليون طن.

5 / تسطير هدف استراتيجي طموح للتحول تدريجيا نحو التصدير، أسوة بدول أخرى انطلقت من الصفر، ثم صارت تحتل الصدارة، فروسيا نفسها كانت (قبل أقل من 20 سنة) تسجل عجزا في إنتاج هذا المحصول بالنسبة لطلبها الداخلي.

6 / تقليص عدد الدول الموردة للقمح اللين نحو الجزائر، إذ يبلغ حاليا 12 بلدا، تحتل فرنسا الصدارة بنسبة 24% (رغم التراجع بنسبة 10% في 2021/2022 بالنسبة للسنة الفلاحية السابقة) ثم تأتي ألمانيا (23%) والأرجنتين (16%) وأوكرانيا (8%) وروسيا (7%) وبولونيا (7%) ورومانيا (6%)، فيما تتقاسم كل من المكسيك وكندا وبلغاريا وليتوانيا وليستونيا 9% الباقية.

7 / شن حملات إعلامية واسعة وقوية من أجل زيادة الوعي الصحي لدى الشعب الجزائري بأضرار الخبز الفرنسي، من وجهة نظر صحية محضة.

8 / استغلال عودة الشعور القومي بقوة، بعد حراك 22 فيفري (خاصة ما تعلق بمشاعر الكراهية تجاه المحتل  الفرنسي السابق) لإقناع من تبقى من الجزائريين بأن هذا الخبز عادةٌ استهلاكية سيئة جدا، غرسها الفرنسيون خلال احتلالهم الطويل جدا للبلاد والعباد، إذ طغى القمح اللين، طوال 200 سنة كاملة: إنتاجا وتوزيعا واستهلاكا.. وتبذيرا أيضا.

9 / تقليص فاتورة استيراد القمح اللين، التي بلغت ستة (6) ملايين طن في السنة، مع التذكير أن هذا الاستيراد الملعون للصنفين من القمح وكذا استيراد مشتقاتهما من الدقيق والسميد من الخارج، قد بلغ خلال سنوات 1975-1985 مستويات قياسية، تزامنا مع عجز وطني كبير جدا في الطاقات الصناعية لتحويل الحبوب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى