تاجر ومفاوض براغماتي… ماذا نتوقع من وزير خارجية إيران؟
إجمالاً تسير سياسة إيران كما هي إلا أن الأوضح الآن هو التركيز على رفع العقوبات عنها وإدماجها في الاقتصاد الدولي، لكن هذا لن يتم إلا من خلال إدارة الصراع مع واشنطن التي تعني مزيداً من أوراق الضغط الإقليمية في يد طهران لتساوم بها الإدارة الأميركية
السياسة الخارجية هي نشاط الدولة الذي يمثل برنامج عمل ممثليها في الخارج من أجل تحقيق أهداف محددة، وللتأثير في سلوك الدول الأخرى، وتكون السياسة الخارجية محصلة لتأثير تفاعل البيئتين الداخلية والخارجية.
تعكس السياسة الخارجية إدراك صانع القرار في دولة ما لدور هذه الدولة في محيطها الإقليمي والدولي، فالطريقة التي يدرك ويرى بها صانع القرار دور بلاده ومصالحها ومصادر التهديد تحدد نمط العداوة والصداقة التي يدخل فيها، ومن ثم شكل سياسة بلاده الخارجية، أي إن الإدراك الذاتي لصانع القرار هو الإطار النفسي للسياسة الخارجية.
هنا نود الإشارة إلى أمرين، الأول أن السياسة الخارجية الإيرانية هي محصلة لتفاعل المصالح الإيرانية مع رؤية صانع القرار الإيراني لدور إيران الإقليمي بما يشمله من القيام بدور الثوري والحامي والمهيمن، إلى جانب الشعور بالاضطهاد والاستثنائية في الوقت ذاته.
والأمر الثاني هو أن حكومة بزشكيان جاءت في سياق داخلي وإقليمي ودولي مختلف عن سابقتها، ففي الداخل الإيراني بلغ الاحتقان الشعبي مداه، وإقليمياً تستمر حرب غزة منذ تسعة أشهر، مع دخول الميليشيات المسلحة و”حزب الله” في المواجهات في محطات تعرف باسم “جبهات مساندة”، إضافة إلى استهداف إسرائيل للسيادة الإيرانية سواء عبر قنصليتها في سوريا أو اغتيال إسماعيل هنية في طهران عشية تنصيب الرئيس الإصلاحي الجديد.
ودولياً، هناك انتخابات أميركية بين دونالد ترمب عدو طهران وصاحب سياسات الضغط لأقصى حد ومرشحة ديمقراطية لم تتمكن إداراتها الحالية من إحراز أي تقدم مع إيران، سواء على مستوى السلوك أو الملف النووي.
إذاً نحن إزاء سياق إقليمي مشتعل على حافة حرب، وإن كانت جميع الأطراف تعلن عدم رغبتها في ذلك، على رغم توافر كل معطيات الانزلاق إلى حرب بين جبهة إيران وإسرائيل مع أي خطأ في تقدير الحسابات.
في هذا السياق، اختار النظام الإيراني هندسة الانتخابات الرئاسية لتأتي برئيس إصلاحي على رغم سيطرة المتشددين على كل مفاصل الدولة، وتمت تسمية عباس عراقجي وهو كبير مفاوضي إيران مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والدول الغربية، وزيراً للخارجية.
ويُعدّ عراقجي مدافعاً قوياً عن خطة العمل الشاملة المشتركة والمفاوضات النووية، ووفقاً له، كانت لهذا الاتفاق ثلاث مزايا لإيران، أولاً ألغى العقوبات، وثانياً أعطى شرعية للبرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك تخصيب اليورانيوم، وثالثاً حيّد المشروع الأمني لأعداء إيران الذين قدموا طهران كتهديد للسلام الدولي.
ومن ثم جاءت إيران بوزير خارجية له خبرة في الشؤون الدولية والنووية، وسيتبنى نهج التفاوض مع الغرب. من جهة هي رسالة قوية من إيران إلى الغرب في لحظة تشتعل المنطقة بإمكان عودة محادثات التفاوض مع إيران المعلنة وليس المقصود هنا المحادثات غير المباشرة السرية مع واشنطن التي تعقد بموجبها صفقات قصيرة مثلما حدث بين إبراهيم رئيسي وجو بايدن.
ومن جهة أخرى، سيكون تركيز عراقجي الذي يُعدّ من عائلة بائعي السجاد، مما لا يدع مجالاً للشك في توظيف مهارات صانع السجاد وصبره إلى جانب المساومة كأسلوب في إدارة ملفات السياسات الخارجية من قبله، وقد حكى في إحدى المرات كيف أنه تعلم من قصص سوق السجاد كيف يجب أن يكون المفاوض في المفاوضات متعددة الأطراف رشيقاً ولا يترك مكانه لحظة لأن يمكن للحظة إهمال أن تمكن من الحصول على الموافقة على اقتراح أو إدراج نص ما.
أما في ما يخص برنامج عمل الخارجية الذي ستتبناه حكومة بزشكيان، فتحدث عراقجي عن أولوياته في السياسة الخارجية أمام البرلمان الإيراني في جلسة علنية، مؤكداً أنه سيواصل سياسة حسن الجوار التي انتهجها سلفه حسين أمير عبداللهيان.
وفي ما يتعلق بالولايات المتحدة، قال ستتبنى حكومة بزشكيان إدارة العداء تجاه واشنطن، وهنا تبرز براغماتية عراقجي، فيعتبر أن الصراع مع واشنطن لن ينتهي ما دام أن طهران تتبنى العداء للإمبريالية الأميركية ولا يمكن لإيران أن تتخلى عن تلك المفاهيم وإلا فقدت شرعيتها كنظام إسلامي قام على معاداة واشنطن والغرب وانتهاج سياسة معاكسة لسياسة الشاه، لذا ليس أمام الطرفين سوى إدارة الصراع بينهما، والمعنى هنا هو خلق التفاهمات على أرضية المساحات المشتركة بينهما، وهو ما حدث خلال حكومة نجاد المتشدد وجورج بوش الابن في زمن المحافظين الجدد وذروة العداء بينهما، فتعاونا جيداً في كل من أفغانستان والعراق.
وعبّر عراقجي كذلك عن أن العودة للاتفاق النووي لم تعُد مجدية وإن كانت إيران ما زالت معنية بإحيائه، لكن الأولوية الأهم حالياً للبلاد هي رفع العقوبات، ومن ثم يمكننا أن نتوقع أن تكون نتائج التفاهمات المقبلة بين طهران وواشنطن رفع العقوبات وعدم تحويل ملف إيران النووي إلى مجلس الأمن، وقد تكون تلك الصفقات حتى لو جاء ترمب رئيساً.
واعتبر عراقجي الصين وروسيا والقوى الناشئة هي أولوية العلاقات الخارجية للحكومة، وأكد استمرار دعم ما سماه “طريق محور المقاومة وفلسطين”، وشدد كذلك على أن الحكومة الجديدة حددت تنمية العلاقات مع شرق آسيا كهدف محوري، ويقصد هنا التعاون مع اليابان.
إجمالاً تسير سياسة إيران كما هي، إلا أن الأوضح الآن هو التركيز على رفع العقوبات عنها وإدماجها في الاقتصاد الدولي، لكن هذا لن يتم إلا من خلال إدارة الصراع مع واشنطن والتي تعني مزيداً من أوراق الضغط الإقليمية في يد طهران لتساوم بها الإدارة الأميركية.