بعد أن تأسَّسَ كيان الاحتلال الصهيوني (إسرائيل) (1948) بإرادة بريطانية ورفض، ثم انهيار تركي (عثماني)، أخذت الدوَل العربية بزمام مرحلة الاستقلال السياسي، متبرعمة الواحدة تلو الأخرى بين المشرق الآسيوي والمغرب الإفريقي. وهنا بدأ ما يُطلق عليه «الصراع العربي ـ الإسرائيلي»، وهو صراع افتراضي (إعلامي في جلِّه) لم يسخن حدَّ التفجُّر العسكري إلَّا بضع مرَّات كان سبق النصر فيها لـ»إسرائيل» الدَّولة الفتية (التي أطلقت الحكومات العربية عليها عنوان «الكيان اللقيط»).
وبعد أن اجتمع العرب في «بيت العرب» (جامعة الدوَل العربية المؤسَّسة حديثًا في القاهرة، اتَّفق القادة العرب على «أسلوب» بطيء وبعيد المدى للقضاء على دَولة «إسرائيل». وقد وجد هذا الاتفاق بؤرته وذروته في مؤتمر قمَّة الخرطوم (الأكثر شهرة بعنوان «مؤتمر اللاءات الثلاثة») (لا صلح، لا اعتراف، لا تفاوض) وهو المؤتمر الذي كان يعَدُّ الأكثر تشدُّدًا بقدر تعلُّق الأمر بقرار الدوَل العربية «القضاء» على «الكيان الصهيوني»!
بَيْدَ أنَّ الريح قد لا تجري على ما تشتهي السُّفن: فبعد عددٍ من الحروب العربية ـ «الإسرائيلية» 1948 و1956 و1967 و1973، راحت البوصلة تغيِّر اتجاهاتها، إذ لم تجدِ خطَّة العرب أعلاه، التي مفادها «مقاطعة» الكيان الغاصب في جميع المجالات حتى يضعفَ من تلقاء نَفْسه، فيضمحلَّ ثم يموت تلقائيًّا.
ولكن المفاجأة كانت على عكس ما توقَّعت القيادات العربية حقبة ذاك: فقد مدَّ الكيان الغاصب خيوط التجارة والتعاون مع دول أوروبا والعالم الغربي عامَّة، فاستغنى عن جيرانه المتربِّصين له والمُعادِين لوجوده.
وقد أدَّت أوروبا الغربية مع الولايات المُتَّحدة دَوْرًا أساسيًّا لِمَنحِ «إسرائیل» افَّة وسائل وعناصر الحياة والتواصل، بل والازدهار، ضاربةً الرغبة العربية بمقاطعة «إسرائيل» عرض الحائط. لِلمَرءِ أن يستذكرَ هذه المَسيرة العرجاء والمتعرِّجة حتى يصلَ النقطة التي صارت فيها «إسرائيل» «أمرًا واقعًا» لا بُدَّ من التسليم به والتسليم له.
وهنا ظهرت مقدِّمات «السَّلام» بينها وبين «جيرانها» العرب، ابتداء من «مشروع روجرز» (1969) الذي مهَّد الطريق لِزيارةِ الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس، قالبًا جميع المعايير «القومية» السابقة المتَّفق عليها. وقد تواصلت جهود التفاهم و»السَّلام» حتى انضمَّت المملكة الأردنية الهاشمية لِجُهودِ السلام، ولم تنبثق (من دوَل ما يُسمَّى بالمواجهة) سوى سوريا، رافضةً لِعَقدِ صفقة سلام مع «إسرائيل» بسبب تواصل احتلال الأخيرة لأراضٍ سورية ولبنانية، لِسُوءِ الطالع! وإذ راح القوم يعلنون ما انوا يبطنون، بدأت الحكومات «الإسرائيلية» المتعاقبة بتوسيع مطالِبها وبالإعلان عن خططها لِعَقدِ صفقات سلام وحُسن جوار مع العديد من الدوَل العربية، درجة أنَّها طالبت ذات مرَّة، بالمشاركة في أحَد مؤتمرات القمًّة العربية كَيْ تنظمَ جزءًا أصيلًا ممَّا يُسمَّى بالعالم العربي، بعد أن كانت «الكيان الغاصب المحتل»، حسـب بلاغيات الأنظمة العربية. إنَّ هذه الاستحالات في مواقف الدوَل العربيَّة حيال «إسرائيل» تدخل الآن مرحلة حاسمة جديدة، خصوصًا بعد حرب غزَّة وإثر قصف جمهورية إيران الإسلامية «إسرائيل» بالصواريخ البالستية، وبالمُسيَّرات، وبعد مشاركة إقليمية في صدِّ واصطياد هذه المقذوفات قَبل أن تصل «إسرائيل». ثمَّة تحوُّلات لم تعُدْ بطيئة كما كانت عليه الحال طوال الأعوام الماضية، إذ تلوح في الأُفق متغيَّرات جذرية لا بُدَّ وأن تضعَ الأجيال العربية القادمة في بقعة مختلفة ومزاج من غير النَّوع الذي كان سائدًا على مرحلة جيلنا، أي مزاج «إنَّنا عائدون» الذي يريدون طيَّه، لِبَالغِ الأسف!