إيران

بين الاقتتال والمهادنة.. مستقبل طهران في ولاية ترمب الثانية

مع أن ترمب صرح بأنه مستعد للتفاوض مع الجمهورية الإسلامية، فإن أي اتفاق جديد من المرجح أن يتطلب موافقة إسرائيلية، وانسحابًا إقليميًّا ملموسًا من جانب طهران، بما في ذلك تقليص الدعم للجماعات المسلحة المناهضة لإسرائيل

يبدو أن التعلم من التاريخ سيظل أحد أهم الدروس المنسية، فمع تولي الرئيس دونالد ترمب فترة رئاسية جديدة ستبدأ بدخوله البيت الأبيض في 20 يناير (كانون الثاني) 2025، بملفات ثقيلة قد تعيد رسم مستقبل الشرق الأوسط في السنوات الأربع المقبلة، وتشكيل خريطة للعلاقات الأمريكية مع القوى الإقليمية غير العربية، وخاصة الجمهورية الإسلامية التي شهدت حالة من الارتباك داخل الأوساط السياسية ودوائر صنع القرار؛ بسبب  الإرث العدائي الذي كان قائمًا بين إيران وإدارة ترمب في فترته الرئاسية الأولى، تطرح كل تلك المخاوف تساؤلًا جوهريًّا مفاده: هل يمكن استشراف سيناريوهات العلاقات الإيرانية الأمريكية بالاستناد إلى الماضي؟

دروس من الولاية الأولى لترمب

شهدت فترة رئاسة ترمب الأولى للولايات المتحدة (2017- 2021) حالة من العداء الممنهج ضد الجمهورية الإسلامية، تكشفت أبرز ملامحها في:

  • العقوبات الأمريكية: أعاد ترمب فرض العقوبات ووسعها في أعقاب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، مع التركيز على قطاع النفط الحيوي في إيران كجزء من حملته “الضغوط القصوى“، حيث تسببت هذه الإجراءات في انخفاض صادرات النفط الإيرانية، التي تعد المصدر الأساسي لإيرادات طهران، وقد أثر هذا الانخفاض الحاد تأثيرًا كبيرًا في الحكومة الإيرانية، التي كان دخلها النفطي يشكل ما يقرب من 70٪ من إيراداتها، فبين عامي 2018 و2021، فرضت إدارة ترمب أكثر من 1500 عقوبة على إيران، أو على شركات أو أفراد أجانب تعاملوا تجاريًّا معها، فضلًا عن العقوبات على المؤسسات الإيرانية المحورية، مثل مكتب المرشد الأعلى، والحرس الثوري، والبنك المركزي.
  • اغتيال قاسم سليماني: أمر ترمب في يناير (كانون الثاني) 2020 باغتيال الجنرال الإيراني قاسم سليماني، رئيس فيلق القدس الإيراني، وأبي مهدي المهندس، نائب قائد المجموعة المدعومة من إيران في العراق، المعروفة باسم قوات الحشد الشعبي، حيث نفذت الولايات المتحدة غارة جوية على مطار بغداد بزعم ردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية، غير أن الضربة هدفت إلى إضعاف نفوذ الحرس الثوري الإيراني في الشرق الأوسط، وجاء رد إيران سريعًا على هذا الاستهداف، إذ شنت سلسلة من الهجمات الصاروخية على قاعدتين عراقيتين تضمان قوات أمريكية، وبعد أشهر، وتحديدًا في يونيو من العام نفسه، أصدرت إيران مذكرة اعتقال ضد ترمب، وطلبت من الإنتربول المساعدة على القبض عليه وعلى عشرات من مساعديه؛ انتقامًا لمقتل سليماني.
  • الاتفاق النووي الإيراني: انسحب ترمب في عام 2018 من الاتفاق النووي الإيراني المتعدد الأطراف لعام 2015، المعروف رسميًّا باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، الذي كان يهدف إلى تقليص القدرات النووية الإيرانية، ووضع أنشطتها تحت مراقبة أكثر صرامة؛ للحد من طموحات طهران النووية، وحاول ترمب بعد ذلك إقناع طهران بالعودة إلى طاولة المفاوضات من أجل إبرام اتفاق أفضل للمصالح الأمريكية، ولكن تلك المحاولات قوبلت بالرفض الإيراني، وصعدت طهران مساعيها النووية من جديد.
  • موجة التطبيع مع إسرائيل: كانت إحدى أهم الإستراتيجيات التي اتخذها ترمب في الشرق الأوسط خلال ولايته الأولى جهوده الرامية إلى عزل إيران على نحو أكبر، من خلال ما يعرف بـ”الاتفاقيات الإبراهيمية، التي تهدف إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل وكثير من الدول العربية والإسلامية، وكانت البحرين والإمارات والمغرب من بين الدول التي انضمت إلى الاتفاقية منذ عام 2020.

ماذا تغير في الولاية الثانية لترمب؟

تأتي الولاية الثانية لترمب في ظل مستجدات محلية وإقليمية ودولية دقيقة تلقي بانعكاساتها على مستقبل العلاقة بين طهران وواشنطن، تتضح أبرزها فيما يلي:

  • العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان: مع الموقف العدواني لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو تجاه طهران في أعقاب الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس على إسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 2023، والحرب الإسرائيلية على لبنان لاستهداف حزب الله المدعوم من الحرس الثوري الإيراني، أصبح الوضع أكثر خطورة للجمهورية الإسلامية، وبينما عملت إدارة الرئيس جو بايدن على تهدئة مسار الحرب في الشرق الأوسط، والعمل على كبح جماح نتنياهو، فإن عودة ترمب إلى السلطة قد تشير إلى نهج أكثر صرامة؛ ما يشجع إسرائيل على اتخاذ موقف أكثر عدوانية تجاه إيران.
  • عودة موجة التطبيع: فوز ترمب بولاية ثانية يعني أن إدارته ستواصل توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية وتعزيزها، وضم دول أخرى إلى صفوفها، وقد يؤدي هذا إلى عزلة أكبر للجمهورية الإسلامية على الساحتين الإقليمية والدولية، بعد أن شهدت سنوات بايدن تحسنًا نسبيًّا في علاقات إيران مع الدول الإقليمية، وخاصة السعودية ومصر.
  • الصورة السلبية لترمب: ارتبطت صورة الرئيس الجديد في إيران بسياسة “السلام من خلال القوة” التي دعا إليها ترمب في ولايته الأولى، من خلال سياسات متشددة وعقابية ضد طهران، لم تنجح في مواجهتها أي جهود للوساطات الإقليمية والدولية، مثلما حدث في عام 2019، حينما كلف ترمب رئيس الوزراء الياباني آنذاك شينزو آبي بالتوسط بين واشنطن وطهران، وهي الوساطة التي انتهت عندما رفض المرشد الأعلى علي خامنئي أي مفاوضات مع ترمب.
  • اغتيال ترمب: على الرغم من عدم وجود دليل مباشر يربط إيران بمحاولتي اغتيال ترمب خلال حملته الانتخابية الأخيرة، فإن الرئيس الأمريكي الجديد يصر على أن طهران تتآمر ضده بهدف منع عودته إلى البيت الأبيض، لا سيما أن الجمهورية الإسلامية تعهدت مرارًا وتكرارًا بالانتقام لمقتل سليماني، غير أن المسؤولين الإيرانيين نفوا علاقة طهران بتلك الاتهامات، بل صرحوا علنًا بأن ترمب يجب أن يواجه العدالة في محكمة قانونية، وليس عملية اغتيال انتقامية.
  • تشكيل الحكومة الجديدة: إن عودة ترمب إلى البيت الأبيض قد تعني الكثير لمستقبل إيران. وبغض النظر عما سيحدث عندما يتولى منصبه، فإن اختياراته لأعضاء حكومته تقدم بعض الشواهد على أن الإدارة المقبلة لن تتبع سياسة بايدن المتمثلة في تخفيف العقوبات، والاعتماد على نحو أساسي على المبادرات الدبلوماسية مع إيران، فقد جاء من أهم تلك الاختيارات؛ إليز ستيفانيك سفيرة للولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وهي المؤيدة بشدة لإسرائيل، وللعودة إلى إستراتيجية الضغوط القصوى على إيران، كما يعد ترشيح مايك والتز لمنصب مستشار الأمن القومي لترمب في البيت الأبيض المقبل، المعروف بتشدده تجاه الجمهورية الإسلامية إنذارًا مباشرًا بممارسة سياسة عدائية تجاه طهران.
  • تفاقم الضغط الأمريكي على الاقتصاد الإيراني: من المحتمل بشدة أن يعيد ترمب في ولايته التي ستبدأ في يناير (كانون الثاني) 2025 سياسة الضغوط القصوى مرة أخرى من خلال إعمال حزم عقوبات اقتصادية متتالية؛ ما ينذر بمستقبل قاسٍ للاقتصاد الإيراني الذي وصفه المرشد الأعلى علي خامنئي، خلال فترة ترمب الأولى بـ”اقتصاد المقاومة”.
  • مستقبل البرنامج النووي: قد يهدف ترمب في ولايته الجديدة إلى منع إيران من بناء سلاح نووي بدلًا من السعي إلى تغيير النظام، فلطالما انتقد خطة العمل الشاملة المشتركة، واصفًا إياها بأنها “أسوأ صفقة” في تاريخ الولايات المتحدة؛ ما يشير إلى رغبته في التوصل إلى اتفاق جديد يحمل بصمته الخاصة، وليس بصمة الرئيس السابق باراك أوباما، يفرض فيه ترمب شروطه التي يريدها، والتي لا تمنح إيران الفرصة لإحراز تقدم نووي، أو امتلاك سلاح نووي؛ ما يحقق المصالح الأمريكية، والمصالح الإسرائيلية كذلك.

سيناريوهات مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية

تفرض المعطيات السابق الإشارة إليها تكهنات مهمة بشأن مستقبل العلاقات الأمريكية الإيرانية في السنوات الأربع المقبلة، تتضح فيما يلي:

السيناريو الأكثر ترجيحًا “العداء المنضبط”: قد ينتهج ترمب خلال فترة ولايته الثانية إستراتيجية عدائية محدودة ومحسوبة النتائج تجاه الجمهورية الإسلامية، ويرجح حدوث هذا السيناريو تولي الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان حكم إيران منذ مايو (أيّار) الماضي؛ ما يدفع إلى تقبل فكرة التفاوض مع ترمب بشأن اتفاق نووي جديد، خاصة في ظل الوضع الاقتصادي المتدهور في البلاد، الذي لا يتحمل عودة سياسة الضغوط القصوى.

كما أن مستجدات الحرب الإسرائيلية أنهكت عسكريًّا الحرس الثوري الإيراني ووكلاءه في المنطقة؛ ما يجعل إيران مستعدة للتفاوض، وتحجيم العداء مع الولايات المتحدة من أجل تجنب ضربة محتملة لمواقعها النووية بتعاون أمريكي أوروبي إسرائيلي، لا سيما في ظل رفض الدول الأوروبية الصارم للبرنامج، وتخلي الدول العربية عن تطوير علاقتها بطهران في حال توسع رقعة التطبيع العربي الإسرائيلي.

فضلًا عن هذا، يعد من أبرز مسوغات هذا السيناريو وعود ترمب في أثناء حملته الانتخابية بإنهاء الحروب في المنطقة؛ ومن ثم سيُختبر مدى صدق تلك الوعود بعدما يدخل ترمب البيت الأبيض في يناير (كانون الثاني) المقبل، لا سيما أن الشخصيات الرئيسة التي اختارها ترمب لقيادة إدارته لم يكن من بينها دعاة الحرب والتصعيد، مثل السفيرة السابقة نيكي هيلي، أو وزير الخارجية السابق مايك بومبيو؛ ما قد يعكس نية ترمب الجادة في إعادة السيطرة على الاضطرابات في المنطقة.

السيناريو الأقل ترجيحًا “العداء الشامل”: قد يتبني ترمب نهجًا تصعيديًّا شموليًّا تجاه إيران خلال السنوات الأربع المقبلة، ويعزز هذا دعوات ترمب المتشددة لإسرائيل من أجل مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية في إطار الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة ولبنان، وتطمح من خلالها تل أبيب إلى تقويض قوى محور المقاومة الإيراني، في ظل محاولات استعادة هيبة الولايات المتحدة بعد استهداف حماس لأبرز حلفائها في أكتوبر (تشرين الأول) 2023. يضاف إلى ذلك أن شخصية نتنياهو تؤدي دورًا محوريًّا في توسيع الفجوة بين ترمب وبزشكيان، وفي ظل استمرار الحرب الإسرائيلية -بقيادة نتنياهو- فمن غير المرجح أن تكون هناك فرصة كبيرة للتوصل إلى تسوية أو اختراقات دبلوماسية بين إيران والولايات المتحدة.

الخاتمة

إن إعلان فوز ترمب في الانتخابات الأمريكية الأخيرة قد يرسل موجة من الصدمات إلى الأسواق المالية الإيرانية، ويفرض ضغوطًا اقتصادية جسيمة على البلاد، وقد تؤدي تلك الصدمات إلى تأجيج مزيد من الاضطرابات الداخلية والسخط على نحو متزايد في جميع أنحاء الجمهورية الإسلامية، ومع ذلك، يظل السؤال الأهم: كيف يمكن لإيران التفاوض مع الرجل المسؤول عن مقتل سليماني؟ كما أن التعامل مع إدارة أمريكية “جمهورية” يصبح أكثر صعوبة لطهران. ومع أن ترمب صرح بأنه مستعد للتفاوض مع الجمهورية الإسلامية، فإن أي اتفاق جديد من المرجح أن يتطلب موافقة إسرائيلية، وانسحابًا إقليميًّا ملموسًا من جانب طهران، بما في ذلك تقليص الدعم للجماعات المسلحة المناهضة لإسرائيل، مثل حزب الله وحماس، وهذا ما لا يُرتأى حدوثه على المدى المنظور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى