لطالما تنافست حركتي فتح وحماس في العشرين سنة الماضية على من يحكم الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة ويفرض برنامجه النضالي ويدير طبيعة العلاقة مع الاحتلال الإسرائيلي ويقرر طريق المقاومة سواء كانت سلمية أم مسلحة. وبالرغم من وجود إثنا عشر فصيلاً الذين وقّعوا على بيان موسكو بالإضافة إلى حركتي فتح وحماس، إلا أن الفصائل الأخرى غير داخلة في تلك المنافسة على الحكم حيث شكّل ذلك التنافس بين فتح وحماس معضلة للشعب الفلسطيني وقسمه جغرافيا وسياسيا منذ عام 2007 وأضر بالقضية الفلسطينية ضرراً بالغا على المستوى العالمي.
لقد مكّنت شعبية حركة فتح منذ تأسيسها من قيادة النضال الفلسطيني ضد الاحتلال مع باقي فصائل منظمة التحرير بدون نزاع مصيري، وبالرغم من الاختلافات التي كانت موجودة بين فصائل منظمة التحرير وقياداتها، وانشقاق بعد الحركات الصغيرة، إلا أن المركب كان ماشيا بقيادة فتح طيلة فترة السبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي، مما أهّلها لتوقيع اتفاق أوسلو للسلام عام 1993 نيابة عن الشعب الفلسطيني وباسم منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت الصدمة الأولى لحركة فتح عندما خسرت انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني عام 2006 لصالح حركة حماس. لكن هذه الخسارة لم تخرج حركة فتح تماماً من قيادة المشهد السياسي كونها ما زالت تتربع على قيادة منظمة التحرير وبقيت على مقعد رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية التي فاز بها الرئيس محمود عباس عام 2005. ومنذ تلك الانتخابات الرئاسية التي فاز بها مرشح فتح، والانتخابات التشريعية التي فازت بها حماس، لم تحدث بعدها أية انتخابات حتى يومنا هذا، وارتجلت فتح في قيادة الضفة الغربية وارتجلت كذلك حماس في قيادة قطاع غزة بدون محاسبة أو مساءلة من أحد وفي ظل غياب قضاء مستقل. وكان الخلاف حاداً بين الفصيلين الحاكمين طيلة تلك السنين السبعة عشر الأخيرة، حيث يدّعي كل منهم أنه يمثّل الشعب الفلسطيني. فكانت فتح تستند إلى أن المنظمة هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني وهذا صحيح، وأنّ رئيسها ما زال رئيس السلطة الوطنية. أما حماس فتستند إلى أنها الحركة التي فازت في آخر انتخابات تشريعية وأنّ من حقها الحكم.
أما المواطن الفلسطيني الغير منتمي لأي من الأحزاب الفلسطينية، وهذا ينطبق على غالبية الشعب الفلسطيني داخل وخارج فلسطين، فيرى أن جميع الانتخابات التي حصلت انتهت فعاليتها ومدتها القانونية سواء التشريعية أو الرئاسية، ويرى ضرورة إعادة بناء منظمة التحرير وتفعيلها بحيث تضم جميع القوى والحركات الفلسطينية بما فيها حركتي حماس والجهاد الإسلامي. لذلك، فإن حركتي فتح وحماس تحكم بحكم الأمر الواقع وبحكم سيطرتهم العسكرية على الأرض سواء في الضفة الغربية أو قطاع غزة. بينما يحتاج الشعب الفلسطيني لقيادة واحدة واستراتيجية نضالية واحدة ولا يحتاج لقيادتين منفصلتين باستراتجيتين مختلفتين. فلدينا حركة فتح التي تتبنى قيادتها وعلى رأسها الأخ الرئيس أبو مازن المقاومة الشعبية السلمية، وعلى الجهة الأخرى لدينا استراتيجية الكفاح المسلح التي تتبناها حركة المقاومة الإسلامية حماس. وكل جهة من طرفها تحاول بطريقتها قيادة جهد الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل إنهاء الاحتلال: فتح من خلال الضغط الدولي والمفاوضات والدبلوماسية والمحاكم الدولية والأمم المتحدة، وحماس من خلال المقاومة والكفاح المسلح وآخرها عملية 7 أكتوبر في غلاف غزة. علماً أن حركة فتح هي أول من قاد الكفاح المسلح ضد إسرائيل لكنها عزفت عنه بعد الجنوح إلى السلام والاعتراف بوجود إسرائيل عام 1993.
وبعد كل الحروب الإسرائيلية العدوانية السابقة على قطاع غزة، والعدوان والاقتحامات والاعتقالات والقتل ومصادرة الأراضي والهدم الذي لم يتوقف في القدس ومدن وقرى الضفة الغربية، توصلت كثير من فئات الشعب الفلسطيني إلى أن الصهاينة لا يعرفون غير لغة القوة حيث لم تنجح معهم لغة الحوار والمفاوضات طيلة ثلاثين عاما وأن استراتيجية المقاومة المسلحة هي فقط التي تصلح مع الصهاينة فقد رفضوا كل مبادرات السلام بما فيها المبادرة العربية كما وصلنا إلى مرحلة يرفض قادة إسرائيل بشكل علني قيام الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967 ويصرحون علناً بنيتهم الاستيلاء على كامل تراب فلسطين من الناحية الأمنية. لذلك لم يكن مستهجناً فرح كثير من الفلسطينيين بالعملية المسلحة التي خططت لها وقادتها حركة حماس في السابع من أكتوبر العام الماضي، لأنها كسرت هيبة جيش الاحتلال الإسرائيلي وأجهزته المخابراتية والأمنية وانتقمت لدماء الشهداء وأعطت أمل للإفراج عن عدد كبير من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وبالرغم من الثمن الخيالي الذي دفعه الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من دماء أبنائه وبناته ومن تدمير مخيف طال كامل قطاع غزة، إلا أن الشعب الفلسطيني وكل الشعوب العربية والاسلامية وكذلك الشعوب الحرة ترفض هذا العدوان الصهيوني الهمجي وتقف مع حق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في مقاومة المحتل. من جهة أخرى، يسعى الجيش الإسرائيلي بكل قوته وإمكانياته أن ينجح في القضاء على حركة حماس وقتل قادتها تحت الأنفاق ويدعمها في ذلك كثير من الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وربما أيضاً يشاركها في ذلك بعض الدول العربية التي تتمنى أن تختفي حماس وربما القضية الفلسطينية كلها عن الوجود.
لقد عادت الولايات المتحدة، ومعها أوروبا والدول الغربية، للحديث عن حل الدولتين بعد ستة أشهر من الحرب العدوانية على قطاع غزة، وبالرغم من الشكل المشوه للدولة الفلسطينية المرتقبة، من ناحية المساحة والسيادة والتواصل، إلا أن حركة فتح والسلطة والمنظمة ما زالت تأمل وتعمل على هذا الحل وتراه الحل الوحيد الذي يلوح في الأفق لتجنيب شعبنا فرص التدمير والقتل والتهجير.. فلا يوجد نية لحركة فتح وكذلك معظم فصائل منظمة التحرير للعودة للكفاح المسلح. وحتى مع الانقسام الحاصل داخل حركة فتح، الذي يتوزع بين مؤيدين للرئيس محمود عباس ومؤيدين لمحمد دحلان وناصر القدوة ومروان البرغوثي، إلا أننا لم نسمع أي من تلك التيارات الفتحاوية رغبتها بالعودة للمقاومة المسلحة كاستراتيجية نضالية جديدة متجددة. وكذلك ليس من المتوقع أن تغير حركة حماس من استراتييجيتها النضالية في الكفاح المسلح في المدى المنظور مهما كانت نتيجة الحرب في قطاع غزة. بل من الممكن أن تستجمع هذه الحركة الإسلامية قوتها في الضفة الغربية والقدس والشتات وتنهض من الركام من جديد بالرغم من كل ما أصابها من استهداف وحصار.
ويبقى الشعب الفلسطيني المغلوب على أمره مشتت بين استراتيجيتين لحركتين أصيلتين هما كبرى الفصائل الفلسطينية، بعد أن يأس تماما من إنهاء الإنقسام بينهما وتحقيق المصالحة الوطنية والوصول إلى وحدة وطنية تقود المشروع الوطني في التحرر والعودة وإقامة الدولة. وتستمر فتح والسلطة في عملها السياسي والدبلوماسي الدولي، وتستمر حماس وفصائل المقاومة في التصدي العسكري للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وبالتأكيد ستتضح الصورة أكثر بعد انقشاع الحرب عن قطاع غزة، هذا إذا لم تتدهور الأمور على الجهة اللبنانية ووجدنا أنفسنا على أعتاب حرب جديدة في المنطقة لا يعرف عقباها أحد.