فوز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بفترة رئاسية جديدة أثار جنون الغرب الجماعي بطريقة لافتة ليس لأنهم لم يتوقعوا فوز بوتين، بل لأنهم صُدموا بحجم الالتفاف الشعبي حوله، الذي أظهرته نتائج اللجنة المركزية للانتخاب، أي ما يقارب 88 بالمئة، وهي نسبة مرتفعة لم يحصل عليها الرئيس الروسي في أي انتخابات سابقة، وكعادة المنظومة الغربية تبدأ بالقول هذه انتخابات غير شرعية، وكأن شرعية الانتخابات تأتي من الغرب وليس من الشعب الروسي، وهذه العبارة بالمناسبة استخدمت في الانتخابات الرئاسية السورية والإيرانية والفنزويلية والبوليفية والنيكاراغوية، وحيث تأتي الانتخابات بزعماء وطنيين حريصين على استقلال وسيادة بلدانهم نسمع العبارة نفسها، أي إن الغرب لا يقبل إلا بانتخابات تجلب أزلامه، وعملاء شركاته ومصالحه، ساعتئذٍ سيمنح الشرعية المزعومة التي يراها من خلال مصالحه هو، وليس مصالح الشعوب والدول.
الرئيس بوتين قال عبارة تلخص الواقع: «لن يصفقوا لنا، إنهم يقاتلوننا بالسلاح»، وهذه العبارة تنطبق على سورية أيضاً، أي إن أحداً في هذا الغرب لن يصفق لنا لأنهم يقاتلوننا بالسلاح والإرهاب والحصار والعقوبات، وهو ما يعني أن ما يطرحه البعض أحياناً من طروحات حول إمكانية إرضاء الغرب لتفادي الحروب والمواجهات، هي طروحات ساذجة وواهمة، ذلك أن تجربة روسيا قد تكون درساً لهؤلاء كي يفهموا ما أقصده، وكي يعرفوا أن بوتين الفائز بأصوات الروس الكاسحة فاز أيضاً بالتصويت على سياساته وإستراتيجية المواجهة، وعلى دعم العملية العسكرية الروسية الخاصة، وعلى التمسك بالاستقلال الوطني والكرامة والوحدة والتضامن.
وبوتين الفائز من جديد أتى بعد إرث تاريخي مليء بالخداع والنفاق لروسيا، وبعد إدراك عميق أن الغرب «الإنغلوساكسوني» لا يمكن أن يتحمل روسيا القوية والموحدة، وصاحبة الكلمة في الساحة الدولية، ولا يمكن أن يتحمل زعيماً قوياً في الكرملين كبوتين، بل يريد رئيساً مثل بوريس يلتسين الذي كان يقول عنه مساعد مادلين أولبرايت، ستروب تالبوت، في إدارة بيل كلينتون: «يلتسين موافق على تقديم أي تنازلات، لكن المهم الآن أن نلحق الحصول عليها عند تناول كؤوس الفودكا»، تخيلوا نظرة الاحتقار هذه التي كان يتعاطى بها الأميركي مع رئيس روسيا آنذاك، على الرغم من أنه، أي الراحل يلتسين، كان مغرماً بالغرب، وكان مثل غورباتشوف قبله يعتقد بسذاجة، أو عن دراية أنه كلما تنازل أكثر رضي الغرب عنه أكثر، والحقيقة التي أصبحت واضحة لأي باحث موضوعي أن الهدف الإستراتيجي لأميركا والغرب كان تفكيك روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر عام 1991، ومحاولة التفكيك هذه قادها مجموعة من الأوليغارش اليهود الروس ذوي الارتباط الخارجي، إذ يكتب أحد الصحفيين الروس الاستقصائيين: إن مخطط خصخصة كل شيء في روسيا قاده، أناتولي تشوبايس، الذي ترأس هيئة صغيرة اسمها «لجنة خصخصة أملاك الدولة» وفي ممرات البناء الخاص بها مقابل فندق روسيا كانت تُسمع أصوات الخبراء الأميركيين، وهم الذين استدعاهم تشوبايس ليعملوا كمستشارين في مجال الخصخصة واقتصاد السوق، وبالمناسبة تشوبايس هذا هرب من روسيا بعد إعلان بوتين بدء العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا.
هذه العملية سماها الصحفي الروسي بعملية «بيع الوطن في سوق الأسهم»! ليس اعتراضاً على النهج الاقتصادي الذي كان يحتاج للتغيير بالطبع، لكن على الطريقة التي نُفذ بها، والتي أدت إلى تدمير الاقتصاد الروسي، وجعله تابعاً لمنظومة الهيمنة الغربية ممثلة بصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، من أجل احتجاز القرار السياسي الروسي لاحقاً، وجعله رهين الخزائن الغربية.
لم يكن الرئيس بوتين آنذاك في موقع القرار، لكنه كأي وطني روسي يحب بلده وشعبه، كان يرى إلى أين يسير المآل، وأي مصير ستواجهه روسيا إن تُركت بأيدي هؤلاء، إذ عرف كغيره من الروس أنه في بداية شهر كانون الأول 1991 سافر بوريس يلتسين إلى بيلاروس في رحلة صيد داخل محمية طبيعية كما تقول الروايات المنشورة آنذاك، وهناك التقى زعماء الجمهوريات السلفية، أوكرانيا وبيلاروسيا، واتفقوا في 18 كانون الأول من تلك السنة على قرار حل الاتحاد السوفييتي وإعلان استقلال جمهورياتهم، على الرغم من أن هذا القرار جاء بعد 9 أشهر تقريباً من الاستفتاء الشعبي الذي عبر من خلاله 76 بالمئة من الشعب عن الرغبة في بقاء الاتحاد السوفييتي موحداً، ما يعني أن هذا القرار جاء مخالفاً للدستور، ومناقضاً للأعراف الديمقراطية، وقيل آنذاك إن بوريس يلتسين اتصل بالرئيس الأميركي جورج بوش الأب لينقل له هذه البشارة الديمقراطية جداً! ومع ذلك لم يقل له بوش: وماذا عن الإرادة الشعبية؟
بعد ذلك ذهب يلتسين في 1 شباط 1992 إلى منتجع كامب ديفيد الشهير ليوقع وثيقة تتضمن انتهاء المواجهة بين البلدين، وبدء حقبة تعاون ذي منفعة متبادلة، وهذه الوثيقة اعتبرت انتهاء للحرب الباردة.
مع كل هذا الانبطاح من قبل يلتسين، وكل الوعود الغربية التي ذكّر بوتين بها الزعماء الغربيين في 10 شباط 2007 في كلمته الشهيرة أمام مؤتمر ميونيخ للأمن حينما قال لهم إن أمين عام حلف «ناتو» السيد فيرنير وعد في 17 أيار 1990 في بروكسل «إن واقعة استعدادنا لعدم نشر قوات «ناتو» خارج حدود ألمانيا توفر للاتحاد السوفيتي ضمانات أمنية ثابتة»، ليسألهم: أين هي هذه الضمانات؟
لقد كان ذلك الخطاب بمثابة إعلان روسي واضح للغرب بأن زمن الأحادية انتهى، وبأن الحرب الباردة تركت خلفها «قذائف موقوتة لم تنفجر»، ومنها حسب الرئيس بوتين: القوالب الإيديولوجية، والمعايير المزدوجة، والكليشيهات الأخرى من نمط التفكير بروح الأحلاف، وأضاف آنذاك: «يجري تعليمنا، نحن في روسيا، الديمقراطية على الدوام، لكن من يزعم أنه يعلمنا، لا يود أن يتعلمها هو بدوره لأسباب غير معروفة»!
كان بوتين يتذكر أيضاً أنه في أيار 1997 تم توقيع إعلان تأسيسي للعلاقات بين روسيا و«ناتو»، ينهي حالة العداء مع الحلف، لكن هذا الإعلان سقط في أول امتحان له في يوغسلافيا عام 1999 عندما غزا الحلف يوغسلافيا لتفكيك آخر بقعة في أوروبا تمنع توسع «ناتو» وتشكل موطئ قدم للروس في قلب أوروبا من خلال جمهورية صربيا، وكان مشروع يوغسلافيا إنموذجاً صالحاً للتطبيق لاحقاً في الشرق الأوسط الكبير، والمشرق العربي من خلال التحالف بين أميركا والإخوان المسلمين.
هذا التاريخ الطويل من الخداع، والكذب الغربي ذَكّرَ به بوتين قبيل الانتخابات الأخيرة في لقاء تلفزيوني حينما قال: بماذا لم يعدونا؟ لقد وعدوا بأن «ناتو» لن يتوسع وها هم على حدودنا؟ لقد وعدوا بتنفيذ اتفاقية مينسك للحل في أوكرانيا، وجاء ثلاثة وزراء خارجية أوروبيون إلينا، وقدموا ضمانات بذلك، وبعد يومين وقع الانقلاب في أوكرانيا؟ بصراحة: لا يمكن الوثوق بوعودهم!
في 25 نيسان 2005 قال بوتين بوضوح شديد لشعبه: «إن روسيا الاتحادية دولة تصون قيمها الخاصة وتحميها وتلتزم بميراثها وطريقها الخاص للديمقراطية، وإنه لن يتحدد وضعنا في العالم الحديث إلا بمقدار نجاحنا وقوتنا».
فهم الروس الدرس جيداً أن النجاح والقوة مفتاح المستقبل، والقوة ليست عسكرية وأمنية فقط، إنما قوة التربية والتعليم، والبحث، والثقافة، وروح الأجيال الجديدة التي يجب أن ترتبط بالوطنية والقيم، والتراث والعادات والتقاليد، أي الهوية الحقيقية للروس، وليس الهوية المصطنعة والمستوردة من قيم الاستهلاك والسطحية والتفاهة الغربية.
ضمن هذا المسار الطويل، والمخاض الصعب المليء بالخيبات والغدر والخيانة المؤامرات، سار بوتين صوب نصره الجديد عام 2024، مؤمناً بقدرة الشعب الروسي، وطاقاته الخلاقة، ومؤمناً بأن سقوط الاتحاد السوفييتي كما قال: «أكبر كارثة جيوسياسية حصلت في القرن العشرين، ومن لم يحزن على انهياره لا قلب له، ولكن من يريد إعادته بحلته السابقة، لا عقل له».
لقد أدرك بوتين بمرارة كيف أُسقط الاتحاد السوفييتي بجرة قلم، وكيف تقلصت الحدود الجغرافية لروسيا عام 1991 إلى ما كانت عليه عام 1613، وبجرة قلم أصبح 50 مليون إنسان من الناطقين بالروسية خارج روسيا، ومع ذلك آمن أيضاً بأنه لمواجهة هذا يحتاج للعمل والجهد والإيمان والصبر، للوصول إلى روسيا القوية.
يشبّه الكاتب السوفيتي الشهير ألكسندر سولجنيستين ما حدث بالنسبة له زمن انهيار الاتحاد السوفييتي في التسعينيات بالقول: «تخيلوا في أحد الأيام الرائعة أن تنفصل ولايتان أو ثلاث ولايات أميركية من الجنوب الغربي، وخلال 24 ساعة يعلنون استقلالهم التام عن أميركا، وتصبح اللغة الرسمية هي الإسبانية، وجميع الناطقين بالإنكليزية منذ 200 عام عليهم أن يُختبروا باللغة الإسبانية، ويؤدوا القسم إلى الحكم الجديد، وإلا لن يحصلوا على الجنسية، ويحرموا من حقوقهم، عندها ماذا سوف يكون تصرف أميركا؟ بكل تأكيد سوف يحدث التدخل العسكري والحرب»!
مبارك فوز بوتين بثقة الشعب الروسي، ونضاله لرفعة بلده وشعبه، هذا الفوز مهم لنا في سورية للمشتركات الكثيرة بيننا وبين الروس، وكذلك للعالم والعدالة التي نتطلع لها جميعاً.
يبقى سؤالي: هل ستتحقق نبوءة سولجنيستين التي تخيلها عن أميركا في تسعينيات القرن الماضي؟