لطالما اعتُبرت فرنسا إحدى القوى الاستعمارية الرئيسية في أفريقيا، حيث استمرت في فرض نفوذها السياسي والاقتصادي عبر عقود من الاستقلال الشكلي لدول القارة. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تراجعًا ملحوظًا لهذا النفوذ، خاصة مع تصاعد موجة القومية الأفريقية، وتنامي الرفض الشعبي للوجود الفرنسي، إضافةً إلى دخول قوى دولية أخرى إلى الساحة الأفريقية، مثل روسيا والصين وتركيا. في ظل هذا التراجع، يطرح البعض تساؤلًا مهمًا: هل تلجأ فرنسا إلى خيار “الفوضى الخلاقة” لإعادة ترتيب أوراقها في أفريقيا؟
فشل يتحمله ماكرون
مرت فرنسا بانتكاسات استراتيجية حادة في القارة الأفريقية، خاصة في منطقة الساحل، حيث خسرت نفوذها في دول مثل مالي وبوركينا فاسو والنيجر، التي شهدت انقلابات أطاحت بأنظمة موالية لباريس. كما تعرضت القوات الفرنسية للطرد من هذه الدول، في مشهد أعاد إلى الأذهان الانهيار التدريجي للإمبراطوريات الاستعمارية القديمة.
يُحمّل الكثيرون الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مسؤولية هذا الفشل الذريع، إذ اعتمد سياسة متخبطة في التعامل مع أفريقيا، متجاهلًا التحولات العميقة التي تشهدها القارة. فمن جهة، حاول ماكرون تقديم نفسه كزعيم يروج لنهج جديد يقوم على إنهاء “الإفريقية الفرنسية” وتعزيز شراكات قائمة على المصالح المشتركة، لكنه في الوقت ذاته واصل استخدام النفوذ العسكري والاستخباراتي للحفاظ على الهيمنة الفرنسية التقليدية. هذا التناقض أفقد باريس ثقة العديد من الدول الأفريقية، التي بدأت ترى في فرنسا عقبة أمام استقلالها الحقيقي.
علاوة على ذلك، لم يتمكن ماكرون من التكيف مع صعود الفاعلين الجدد في أفريقيا، مثل روسيا والصين، ولم يدرك أن الشعوب الأفريقية باتت أكثر وعيًا واستعدادًا للوقوف في وجه التدخلات الخارجية. وبدلًا من مراجعة سياساته، استمر في نهج التصعيد والتهديد بالعقوبات، ما زاد من عزلة باريس وأدى إلى تسريع فقدانها لنفوذها في القارة.
مؤشرات على التحركات الفرنسية
هناك مؤشرات توحي بأن فرنسا قد لا تستسلم بسهولة لفقدان نفوذها الأفريقي. فمنذ الإطاحة بالحكومات الموالية لها، بدأت باريس في تصعيد خطابها ضد الأنظمة الجديدة، ووجهت تهديدات بفرض عقوبات وعزل هذه الدول دوليًا.
في النيجر، على سبيل المثال، دعمت فرنسا التهديدات التي أطلقها “الإيكواس” بالتدخل العسكري ضد المجلس العسكري الحاكم، وهو ما فُسر على أنه محاولة لاستعادة النظام السابق الموالي لها. كما يلاحظ تزايد الأنشطة الاستخباراتية الفرنسية في عدد من الدول الأفريقية، وهو ما يشير إلى احتمال تحضيرها لخطط بديلة للتعامل مع الواقع الجديد.
السيناريوهات المحتملة
مع استمرار التحولات الجيوسياسية في أفريقيا، تجد فرنسا نفسها أمام ثلاثة مسارات رئيسية، لكل منها تداعياته الخاصة على مستقبل نفوذها في القارة.
السيناريو الأول يتمثل في التأقلم مع الواقع الجديد، حيث قد تسعى باريس إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الأفريقية بعيدًا عن النهج الاستعماري التقليدي، وذلك عبر تعزيز التعاون الاقتصادي والتنموي مع الدول الأفريقية على أسس أكثر ندية واحترامًا لسيادتها. قد يشمل هذا السيناريو تقديم استثمارات كبيرة في مجالات البنية التحتية، والتعليم، والصحة، إضافةً إلى دعم الحكومات المحلية في مواجهة التحديات الأمنية دون فرض أجندات سياسية مباشرة. غير أن هذا السيناريو يتطلب تحولًا جذريًا في العقلية الفرنسية، التي لطالما اعتمدت على النفوذ العسكري والاقتصادي لفرض مصالحها، وهو أمر قد يكون صعب التحقق في المدى القريب.
أما السيناريو الثاني، فيقوم على اللجوء إلى الفوضى الخلاقة كوسيلة لإعادة ترتيب المشهد السياسي في الدول التي فقدت باريس السيطرة عليها. يمكن أن يشمل ذلك دعم الحركات المسلحة والانقلابات المضادة، أو استغلال التوترات العرقية والدينية لإضعاف الأنظمة المناهضة للنفوذ الفرنسي. وقد تلجأ باريس أيضًا إلى فرض العقوبات الاقتصادية، أو عرقلة المساعدات الدولية، أو حتى تحريض المنظمات الإقليمية مثل “الإيكواس” على التدخل عسكريًا ضد الأنظمة التي أطاحت بالحكومات الموالية لها، كما حدث في النيجر ومالي وبوركينا فاسو. مثل هذا السيناريو قد يمنح فرنسا فرصة لاستعادة بعض نفوذها على المدى القصير، لكنه يحمل مخاطر كبيرة، فقد يؤدي إلى تزايد العداء الشعبي تجاهها، ويدفع هذه الدول نحو تعزيز تحالفاتها مع قوى بديلة مثل روسيا والصين، مما قد يعمّق عزلتها الأفريقية.
أما السيناريو الثالث، فهو التوجه نحو تحالفات جديدة من خلال البحث عن شراكات بديلة داخل القارة وخارجها. قد تسعى فرنسا إلى تعزيز علاقاتها مع دول لا تزال تحتفظ بعلاقات قوية معها، مثل ساحل العاج والسنغال، واستخدام هذه الدول كنقاط ارتكاز جديدة للنفوذ الفرنسي. في الوقت نفسه، قد تحاول باريس الانخراط في تحالفات أوروبية وأمريكية أوسع لدعم وجودها في أفريقيا، من خلال طرح نفسها كقوة رئيسية في الجهود الدولية لمكافحة الإرهاب، أو من خلال توسيع نطاق التعاون العسكري والاقتصادي مع دول خليجية لها مصالح في القارة مثل الإمارات والسعودية. غير أن نجاح هذا السيناريو يعتمد على قدرة فرنسا على تقديم نفسها كشريك موثوق، وليس قوة استعمارية قديمة تحاول استعادة نفوذها بطرق ملتوية.
في النهاية، سيعتمد المسار الذي ستتبناه فرنسا على مدى استعدادها للاعتراف بحقائق التغيير الحاصل في أفريقيا، والقدرة على التكيف مع خريطة التحالفات الجديدة، دون اللجوء إلى أساليب الهيمنة التقليدية التي لم تعد مقبولة في القارة.
خاتمة
فرنسا تواجه أزمة غير مسبوقة في أفريقيا، حيث لم تعد قادرة على فرض إرادتها كما في الماضي. وبينما تحاول بعض القوى الأفريقية التحرر من الإرث الاستعماري، يبقى السؤال الأهم: هل ستقبل باريس باللعب وفق القواعد الجديدة، أم أنها ستلجأ إلى إشعال الفوضى للحفاظ على ما تبقى من نفوذها؟ الأيام القادمة ستكشف الإجابة، لكن المؤكد أن أفريقيا لم تعد كما كانت في السابق، وفرنسا باتت مطالبة بالتعامل مع واقع جديد قد لا يكون في صالحها.