تشهد الساحة الاقتصادية العالمية اتجاهًا لدى العديد من الدول الناشئة والاقتصادات الصاعدة لتكوين تكتلات اقتصادية، بغية تعزيز النمو الاقتصادي وتحسين قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية.
ومن بين هذه التكتلات تبرز مجموعة دول بريكس التي تأسست عام 2009، وتضم البرازيل وروسيا والصين والهند وجنوب إفريقيا، ثم توسعت مع بداية العام الجاري لتضم مصر والإمارات والسعودية والأرجنتين وإيران وإثيوبيا.
تعد بريكس تكتلًا قويًا يسعى لتثبيت حضوره الدولي على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، في ظل التطورات العالمية المتسارعة.
وتعتبر هذه المجموعة بمثابة نموذج لتعاون “الجنوب الجنوب” والذي يتجاوز الحدود الجغرافية ويهدف إلى تعزيز الشراكات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية بين الدول التي تشترك في تحديات التنمية والتطور.
تمثل دول بريكس ما يقرب من نصف سكان العالم وخمس التجارة العالمية، وثلث الناتج الإجمالي العالمي، كما تجاوز إجمالي ناتجها الاقتصادي إنتاج مجموعة السبع وفقًا لتعادل القوة الشرائية.
اقرأ أيضا.. كيف أصبح موقع روسيا على الخارطة السياسية اليوم
وتصل نسـبة الصادرات السلعية والخدمية لدول بـريكس إلى 18.3% مـن الصادرات العالمية، وتبلغ نسبة الواردات السلعية والخدميـة لـدول المجموعة 16.2% من الواردات العالمية و18% من إجمالي حجم التجارة العالمية.
وتمكنت المجموعة من جذب نصف الاستثمارات الأجنبية في العالم، فضلا عن تمتع الدول الأعضاء بموارد طبيعية ضخمة وأسواق متنوعة وكبيرة، ما يجعلها مركزًا لجذب الاستثمار الأجنبي المباشر.
نظام دولي تعددي
وتسعى دول بريكس إلى خلق نظام دولي تعـددي وتقديم بديل لنظام الهيمنة الغربية، وجعـل التكتل لاعبًا أساسيًا في النظام الاقتصادي العالمي، يطرح نفسه كبديل لأطر المؤسسية القائمـة تحـت قيـادة القـوى الغربيـة منـذ نهايـة الحـرب العالميـة الثانيـة، مـن خلال توفيـر أطـر بديلـة للقـروض والتمويـل الإنمائي، مثـل إطلاق بنـك التنمية الجديد وتدشـين آليـات بديلة للنظم المالية بعيـدًا عـن هيمنة الـدولار.
منذ تأسيسه، قدم البنك استثمارات في البنية التحتية والتنمية المستدامة بنحو 35 مليار دولار لدول بريكس، لتمويل مشاريع الطاقة النظيفة، وكفاءة الطاقة، والبنية التحتية للنقل والمياه والصرف الصحي، وحماية البيئة والبنية التحتية الرقمية، والبنية التحتية الاجتماعية.
علاوة على ذلك، تعد آلية تعاون بريكس منصة مهمة للتعاون بين الأسواق الناشئة والدول النامية، فمنذ تأسيسها عززت بشكل مستمر آلية تماسكها، وأسس التعاون، ووسعت نطاق تعاونها، وحسنت تأثيرها، وأصبحت قوة إيجابية ومستقرة من أجل الخير في الشئون الدولية، وطورت الآلية إطارًا متعدد المستويات للتعاون العملي في عشرات المجالات، بما في ذلك الاقتصاد والتجارة والمالية والزراعة والثقافة والتعليم والصحة ومراكز الفكر وتنمية المدن الشقيقة، لتصبح قوة بناءة في تعزيز النمو العالمي، وتحسين الحوكمة العالمية، وتعزيز المزيد من الديمقراطية في العلاقات الدولية.
رؤى دول الجنوب
برزت مجموعـة بريكـس كساحة لطرح رؤى دول الجنوب المتوسطة، وإيصـال صوتهـا علـى أعلـى مسـتوى فيمـا يتعلـق بإعـادة صياغـة الحوكمة العالميـة التـي تهيمـن عليهـا القـوى الغربيـة ورفض منـاخ الاسـتقطاب وتسييس القضايـا العالميـة مثـل المنـاخ ونقـل التكنولوجيـا وغيرهمـا.
وتسـعى دول بريكـس مـن خلال توسـيع العضويـة إلـى توفيـر أطـر بديلـة للتعـاون متعـدد الأطـراف وإنهـاء الهيمنـة الغربيـة علـى النظـام الاقتصادي النقـدي.
وتوفيـر منصـة للقوى المتوسـطة للتعبير عـن مصالحهـا، وبلـورة دور فاعـل ومسـتقل علـى السـاحة الدوليـة، وزيـادة فـرص المنـاورة أمامهـا بعيـدًا عـن التبعيـة والهيمنـة وتحقيق مصالحها من خلال تنويـع العلاقـات الاقتصاديـة وتعزيـز فـرص التمويـل الإنمائي والاسـتثمارات والتجـارة البينية.
كمـا عكـس التوسـع الأخيـر رغبـة دول مجموعـة بريكـس فـي توطيـد علاقـات الشـراكة، خاصـة مـع الشرق الأوسط وإفريقيا، في ظل التراجع الأمريكي فـي هـذه الأقاليم، وتنامي الدور الصيني والروسي، وبالتالي باتت هذه الأقاليم سـاحة للتنافس الدولي بيـن القـوى الكبـرى.
كمـا يتيح توسـيع العضويـة لـدول بريكـس العديـد مـن المزايـا، مثـل: التجـارة البينيـة، وحريـة نقـل التكنولوجيـا والمعرفة بيـن دول المجموعـة، وتوفيـر آليـات للتمويـل أكثـر مرونـة واسـتدامة، دون التدخـل فـي الشـئون الداخليـة للدول، مـع مراعـاة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافـة إلـى الاسـتفادة مـن الخبـرات والإمكانات الماديـة والتكنولوجيـة الاستشارية للمؤسسـات التابعة لها.
وكذلك فإن توجه العديـد مـن دول المجموعـة للموافقـة علـى التبـادل التجـاري بالعملات المحليـة يزيـد مـن الطلب علـى العملات المحليـة، ويحـد من تأثير قـرارات البنك الفيدرالـي الأمريكي، بمـا يسـهم فـي خفـض الطلـب علـى الدولار بشـكل يؤثر علـى أسـعار السـلع، ويسـاعد فـي كبـح جمـاح التضخـم.
إن التحولات العالميـــة تتجـــه إلـــى التعدديـــة السياسـية والتحول في مركـــز القوة مـــن الغـــرب إلـــى الشـــرق. وفي هذا السياق تســـعى بريكس إلـــى إحـــداث تحـــول تدريجـي في الحوكمـــة العالميـــة في اتجــاه التعدديــة مــن أجــل الاستقرار، ورفـض منـاخ الاستقطاب، وضـرورة التعـاون فـي القضايـا العالميـــة ذات الاهتمام المشـــترك.
إستراتيجيات التنمية
إن النمو الاقتصادي القوي الذي تحقق على مدى العقد الماضي وتطبيق الإصلاحات الاقتصادية ذات الطابع الليبرالي، فضلا عن إستراتيجيات التنمية التي جسدت خيارات معبرة عن كيفية الاندماج في الاقتصاد العالمي، هي كلها عناصر جعلت من بريكس لاعبًا مؤثرًا على الساحة الاقتصادية الدولية.
وبغض النظر عن الاختلافات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين دول مجموعة بريكس فإنها تتقارب فيما بينها من حيث الدينامية التي يتميز بها أداء اقتصاداتها الكلية في العقود الأخيرة.
وهي تتشابه أيضًا في التغيرات الهيكلية التي التزمت بها لتحرير أسواق العمل والأسواق المالية.
علاوة على ذلك ركزت التنمية الاقتصادية في بلدان المجموعة على الإستراتيجيات الصناعية والتجارية من خلال زيادة حصتها في أسواق التجارة العالمية للسلع والخدمات.
ورغم حداثة بريكس مقارنة ببقية الاقتصادات كالاتحاد الأوروبي وآسيان، لكن التكتل تمكن من تصدر المشهد الاقتصادي الدولي، نظرًا للثقل الاقتصادي لدوله، في ظل ما تتمتع به من إمكانات بشرية وصناعية وزراعية وتكنولوجية، تجعله قاطرة للنمو العالمي.