بريطانيا.. ديموقراطيّة للبيع!
الايمان بمبادئ حزب ما قد يكون دافعاً مشروعاً للتبرع له. وفي حال غياب هذه العلاقة الأيديولوجية الوثيقة، يقتضي المنطق افتراض وجود مصلحة وراء التبرع مهما كان المبلغ صغيراً. ربما كانت تجربة منصور كقيادي في حزب قريب من المحافظين تبرر له إلى حد ما دعمهم.
حينما وقف ريشي سوناك على عتبة “10 داونينغ ستريت” قبل أن يغيب وراء البوابة السوداء الشهيرة لمباشرة مهماته رئيساً للوزراء، تعهد أن تتمتع الحكومة التي سيشكلها بـ”النزاهة والمهنية وتخضع للمساءلة على المستويات كافة. إن الثقة (لا تعطى، بل) تؤخذ وأنا سأكسب ثقتكم”. وقبل أن يُكمل سنته الأولى في السلطة، كانت أسهمه قد بدأت تتراجع. مع ذلك، وضع بعض كبار رجال الأعمال ثقتهم به وراحوا يتنافسون على ضخ الملايين في خزينة حزب المحافظين، مدعين أنهم يؤمنون برسالته. فهل هناك من يدفع الكثير مقابل لا شيء، ما دام أن “لا غداء من دون ثمن” كما يقول المثل الإنكليزي؟
ومن أبرز “فاعلي الخير” هؤلاء فرانك هيستر المثير للجدل، ومحمد منصور، البريطاني من أصل مصري. وقد بلغت بهما الحماسة حداً استطاعا معه تحقيق رقمين قياسيين لجهة التبرع لحزب المحافظين، في وقت بدأ الناخبون ينفضون عنه.
منصور وهو رئيس مجموعة تحمل اسم عائلته تعمل في مجالات، منها تجارة السيارات وفي قطاع البنوك والمال والاستثمار، وأتت إلى المملكة المتحدة في 2010، أي بعد عام من إقالته بسبب الحادث المروع لقطار العياط من وزارة النقل التي كان قد شغلها منذ 2005، يؤكد أنه اقتنع بأداء سوناك وتفانيه في خدمة بريطانيا فتبرع لحزبه بـ600 ألف جنيه إسترليني في كانون الأول (ديسمبر). وسرعان ما كوفئ على ذلك بمنصب “الخازن الأول” الذي يعمل صاحبه على جمع التبرعات لحزب المحافظين. ثم قدم في أيار (مايو) الماضي 5 ملايين جنيه إسترليني (نحو 6.2 ملايين دولار). وهذا سخاء لم يكن قد عرف منذ عشرين سنة، ما جعل البليونير المصري الأصل صاحب أكبر تبرع مُنح للحزب الحاكم دفعة واحدة منذ 2002.
تأخرت المكافأة حتى هذا العام، وكانت أرقى بكثير من سابقتها. فقد خلع عليه سوناك لقب شرف من رتبة فارس، وأصبح اسمه السير محمد منصور. والمتوقع أن يصبح لورداً في وقت غير بعيد، فقد دأب حزب المحافظين على إرسال من يُسند إليهم وظيفة “خازن” إلى مجلس اللوردات. كان هناك “لغط” في الصحافة البريطانية حول خلفيته، وانتقادات حادة من جانب حزب العمال، ولا سيما لكونه وزيراً سابقاً في نظام “استبدادي” على حد تعبيرهم.
وتزايدت الاحتجاجات بعد الكشف عن اشتباه بوجود مخالفات ضريبية في سجل “أوناتراك” إحدى الشركات التابعة لمجموعته، وعن تحقيق لهيئة “الضرائب والموارد الملكية” معها. وتردد أن الشركة وافقت في شباط (فبراير)، أي قبل نحو ثلاثة أشهر من تبرعه بالملايين الخمسة، على دفع مبالغ كبيرة لمصلحة الضرائب! واعتبر العمال أن ذلك كان دليلاً إلى “فساد” حزب المحافظين.
إلا أن منصور ليس أول شخص مقرب من حزب المحافظين، أو عضو فيه، يحل أشكالاً ضريبياً “سلمياً”. وهو ينفي ارتكاب أي إساءة قانونية. وتجربته تذكر المرء بناظم زهاوي الوزير الأسبق العراقي الأصل الذي أقاله سوناك العام الماضي بسبب “تسويات” ضريبية. ويلفت محافظون إلى أنه لو كان منصور فعلاً قد خرق القانون لما نجا من العقاب الذي لم يرحم مسؤولاً كبيراً مثل زهاوي؟ إلا أن النائب كريس بريانت، عضو حكومة الظل، اعتبر أن تلك “المصالحة” تثبت أن “حزب المحافظين فاسد (…) حتى النخاع”.
أما قصة فرانك هيستر، فمختلفة كلياً. أعطى الحزب الحاكم 15 مليون جنيه إسترليني، ما جعله أكبر متبرع في تاريخ المحافظين. لكن كُشف أخيراً عن حادث لا يزال يلقي بظلاله الداكنة عليه وعلى الحكومة. فهو دعا قبل سنوات إلى إطلاق النار على دايان أبوت، أول نائبة سوداء (عمالية) في مجلس العموم. واعتبر أنها منفرة إلى حد يجعل الناس “يكرهون كل امرأة سوداء”. وتحقق حالياً الشرطة في هذا التحريض، لا سيما أنه قد يدفع أحد المتطرفين إلى مهاجمتها.
والأدهى أن كشف النقاب عن هذا الاستهداف العنصري للنائبة، جاء بعد نحو أسبوعين من كلمة ألقاها سوناك أمام “10 داونينغ ستريت” دافع فيها عن النواب الذين باتوا “لا يشعرون بالأمان في بيوتهم”. ومع ذلك، تأخرت الحكومة كثيراً في إدانة إساءة هيستر، ولم يصفها سوناك بـ”العنصرية” إلا بعد أيام من افتضاحها. وانهمك كبار الوزراء في محاولة لتبرير “غلطة” ارتُكبت وتم الاعتذار عنها. فلماذا يدافعون عن شخص كهذا؟
الجواب الأقصر هو أنهم يحتاجون إلى أمواله، ولا يستطيعون إعادتها إليه. لكن السبب الأهم هو توازن القوى المضطرب داخل الحزب، بحيث لا يستطيع سوناك، إن أراد، أن يعاقب العنصريين فيه. ولذلك لم يقو حتى على تسمية معاداة لي أندرسون نائب رئيس حزب المحافظين السابق المسلمين (إسلاموفوبيا) باسمها.
والسؤال الأكثر تعقيداً هو: لماذا يدفع هيستر أو منصور هذه المبالغ الطائلة لحزب على وشك الخروج من السلطة؟ والحقيقة أن مجرد 50 ألف جنيه إسترليني تضمن، بموجب برنامج خاص بكبار المتبرعين يسمى “مجموعة القادة”، للراغب فرصة التحدث على انفراد مع رئيس الحكومة وكبار الوزراء مرة كل أربعة أشهر، فما الداعي إلى دفع الملايين؟
الايمان بمبادئ حزب ما قد يكون دافعاً مشروعاً للتبرع له. وفي حال غياب هذه العلاقة الأيديولوجية الوثيقة، يقتضي المنطق افتراض وجود مصلحة وراء التبرع مهما كان المبلغ صغيراً. ربما كانت تجربة منصور كقيادي في حزب قريب من المحافظين تبرر له إلى حد ما دعمهم. أما هيستر، فهو لم يكن يوماً معنياً بالسياسة ولم ينتخب سابقاً المحافظين، بل صوّت للخضر عندما شارك بالانتخابات. فما سر هذا السخاء الذي بدأ قبل نحو عام؟ وهل ثمة علاقة بين تبرعاته وحقيقة أن أعماله تعتمد اعتماداً كبيراً على الفوز بعقود حكومية، التي حصل في سنوات قليلة ماضية منها على ما قيمته نحو 400 مليون جنيه إسترليني؟
وحزب العمال ليس أكثر تعففاً. وقد تلقى نحو 21 مليون جنيه إسترليني في عام 2022 من التبرعات، بينما كان نصيب الحزب الحاكم 44.5 مليون جنيه إسترليني. وعندما كان في الحكم أيام توني بلير، اتُهم قياديوه بقبض الكثير من المال السياسي. واستطاع القادرون على دفع الثمن في تلك الأيام أن يصبحوا لوردات ويفوزوا بعقود واستثمارات وجوازات سفر.
بيتر غيوغيغان، مؤلف كتاب “ديموقراطية للبيع” يقول إن النفوذ وألقاب الشرف والعقود إلخ.. تُباع وتُشرى في بريطانيا. ويصل الغني إلى ما يريد من دون أن تمنعه قيم “النزاهة” المزعومة لسوناك وحكومته عن بلوغ مآربه. أما الفقير، فيبقى صوته غير مسموع لأن جيوبه فارغة!