تونس

برلمان تونس في خدمة الرئيس سعيد

ومن الواضح أن البرلمان يضع أمام عينيه إنجاح حكومة الرئيس سعيد وإزالة العراقيل التشريعية لتقدر على تأمين المناخ الملائم لعملها. والسبب يكمن في قطع الطريق أمام المزايدين حتى لا يقولوا إن حكومة الرئيس فشلت أو عجزت عن الإيفاء بتعهداتها الداخلية والخارجية.

حظي البرلمان التونسي الجديد بالاهتمام قبل انتخابه وحتى بعد ذلك في سياق الحديث عن قدرة الرئيس قيس سعيد على القطيعة مع السنوات العشر الماضية وبناء مؤسسات جديدة بعيدة عن الفساد والفوضى، لكنه تحوّل من الفوضى والجدل وصراعات الوجوه والأحزاب إلى السكون والتماهي مع رئيس الدولة بدل أن تكون للبرلمان سلطة توازي سلطة الرئيس تلتقي معه وتختلف وتعارض ضمن سياق التوازن بين السلطات.

كانت شرعية البرلمان ناتجة فقط عن تلك القطيعة، لكن واقعيا هو ضعيف بدءا بنسبة المشاركة في الانتخابات التي تجاوزت عشرة في المئة بالكاد، وهو ما يعني أن الناس لم يعطوه تفويضا حقيقيا شبيها بما حصل عليه قيس سعيد في انتخابات 2019، وعليه أن يكافح ليحصل على شرعية واقعية من الناس من خلال إنجازاته في مراقبة الحكومة وتمرير قوانين خادمة لهم.

لكن تقرير منظمة “أنا يقظ”، وفق ما نقلت الوكالة الرسمية للأنباء مقتطفات منه، يقول عكس ذلك تماما، فهو يشير إلى أن مشاريع القوانين المصادق عليها تركزت حول مسائل بعيدة عن مصالح الناس بشكل مباشر.

وذكر التقرير أن أغلب القوانين المصادق عليها تتعلق بالاتفاقيات والقروض وعددها 19، تليها قوانين تتعلق بتنقيحات أو تشريعات جديدة وعددها 11، و6 قوانين تتعلق بالمالية والميزانية، وقانون وحيد يتعلق بمنح امتيازات استغلال محروقات.

ومن الواضح أن البرلمان يضع أمام عينيه إنجاح حكومة الرئيس سعيد وإزالة العراقيل التشريعية لتقدر على تأمين المناخ الملائم لعملها. والسبب يكمن في قطع الطريق أمام المزايدين حتى لا يقولوا إن حكومة الرئيس فشلت أو عجزت عن الإيفاء بتعهداتها الداخلية والخارجية.

العنصر المشترك بين الفائزين في البرلمان هو الانتصار لشعارات الرئيس سعيد عن مكافحة الفساد وتطهير الإدارة، التي مثلت مدخلا لتعويض محسوبين على الأحزاب في العشرية الماضية بالمحسوبين على مسار 25 يوليو.

الاختيار كان سياسيا بالأساس، واستغل المرشحون غضب الناس من البرلمان السابق، ومن ارتباك أنصار الأحزاب ليترشحوا ويفوزوا بكل يسر حتى وإن كان ذلك بأرقام ضعيفة ولا تؤشر على أيّ شعبية يستند إليها النائب في محيطه. وكان أغلبهم مدعومين بشكل مباشر أو غير مباشر من أحزاب صغيرة كانت أعلنت عن دعمها لمسار 25 يوليو وتبرّأت مما تسمّيه “العشرية السوداء” بحثا عن دور ما في “حزام الرئيس”.

هذا أهم عنصر جعل من البرلمان مؤسسة في صف الرئيس، وليس مؤسسة منافسة أو مناوئة للسلطة التنفيذية، وهو ما يفسر أن المجلس صادق على 37 مشروع قانون فقط، 97 في المئة منها صادر عن مؤسسة رئاسة الجمهورية.

كما أن تداخل المهام مع المجلس الوطني للجهات والأقاليم، الذي لم ينتخب بعدُ، أربك البرلمان وحصر دور النواب في قضايا لا تتعلق بجهاتهم، وخاصة المناطق الداخلية التي تنتظر من المجلس أن يدفع الحكومة لإقرار مشاريع واضحة وعاجلة بدلا من السير على طريق المرحلة السابقة حين سمع الناس وعودا كثيرة ولم يروا منجزات.

وهناك عامل ثان مهمّ أثّر في أداء البرلمان وأفقده بريقه كواجهة منافسة للسلطة التنفيذية، وهو نوعية العناصر التي صعدت إلى البرلمان، فليست هناك كفاءات كثيرة كما أن النواب ليسوا ممثلين لأغلب القطاعات، مع حضور محدود جدا لتمثيل النساء.

ولم تتجاوز مشاركة النساء في البرلمان خمسة عشر في المئة (25 نائبة. كما لم تصعد أيّ نائبة عن ثلث المحافظات التونسية “نحو 8 محافظات”)، ما يؤكد مخاطر التخلي عن التناصف في تحديد القائمات الانتخابية.

يشار إلى أن عدد النساء في البرلمان السابق بلغ 26 في المئة، بـ57 نائبة من أصل 217 عضوا.

وخلا البرلمان من السياسيين المعروفين، الذين لديهم خبرات أو أفكار يمكن أن تثري أداءه بالنقاشات، ما حوّل ممثلي الأحزاب المغمورين إلى أدوات تنفيذية لأحزابهم وحركاتهم التي تبحث عن الولاء للرئيس سعيد وطمأنته بأن لديه ظهرا سياسيا في البرلمان.

مع الإشارة إلى أن المجموعات السياسية الداعمة للرئيس والممثلة في البرلمان الحالي اكتفت في البرلمان السابق بتغذية الخلافات ومشاغبة حركة النهضة أكثر مما قدمت من مشاريع قوانين، وهو ما قد يفسر فقر الأفكار في البرلمان الحالي.

وغياب التعدد السياسي والحزبي والقطاعي أفقد الكتل الحماس لتقديم المبادرات وإجراء التحالفات والاستعانة بالخبراء وعقد المؤتمرات الصحفية.

وكان لغياب التنوع والكفاءة داخل البرلمان تأثير واضح على مقترحات النواب واهتماماتهم، من ذلك أن الاهتمام الأول، الذي جرت حوله نقاشات طويلة، وكشف عن “خلاف” مع السلطة كان مشروع قانون تجريم التطبيع مع إسرائيل. وكان هذا المشروع امتدادا لمزايدات في البرلمان السابق الهدف منها حصر النهضة في الزاوية.

ورغم الحماس الذي قوبل به المشروع في البداية بين مختلف مكوّنات البرلمان من قوميين ويساريين، فلم يتم الاستمرار به لاعتراض رئيسه إبراهيم بودربالة، الذي قال إن لديه إشارات من قيس سعيد بعدم تمرير القانون ليتم تأجيل المقترح إلى موعد مفتوح.

وعدم المصادقة على المشروع كان مفهوما في ظل حالة الاستقطاب الدولية بسبب حرب غزة، وأيّ تبنّ له كان سيجعل تونس تواجه وضعا صعبا خاصة في ظل استنفار شركائها الأوروبيين للوقوف مع إسرائيل ظالمة أو مظلومة.

لكن بعض المجموعات الصغيرة ما تزال تطرح المقترح بين فينة وأخرى للاستثمار السياسي وامتدادا للشعبوية التي ركبت موجتها وقادتها إلى البرلمان.

وساهم غياب التغطية الإعلامية لجلسات البرلمان في تكاسل النواب وعدم حماسهم لإظهار قدراتهم الذاتية في النقاش وتقديم مقترحات أحزابهم وتكتلاتهم الجبهوية والاعتراض على المبادرات بما في ذلك مبادرات الرئيس سعيد.

لكن هذه الصورة الهادئة للبرلمان، وإن كانت لا تزعج السلطة وتريحها من التوتر السياسي والإحراج أمام الرأي العام، فإنها تؤثر في صورة البرلمان كمؤسسة ذات مشروعية شعبية يفترض أن تواجه السلطة التنفيذية رأسا برأس. كما تؤثر في صورة الديمقراطية نفسها وتصب في مسار الانتقادات التي توجه للسلطة بأنها قتلت الحياة السياسية وأنتجت مؤسسات هجينة ليس لها تأثير.

ومن دون شك فإن بدء العمل بنظام الغرفتين (برلمان ومجلس جهات وأقاليم) سيزيد من تهميش فاعلية البرلمان، وربما يخطف المجلس الآخر الأضواء بسبب اهتمامه بقضايا الجهات، ويمكن أن يبدو أكثر التصاقا بالناس الذين انتخبوه، وأيّ مكاسب على هذا المستوى ستحسب لممثليه في الجهات فيما يتراجع ظهور نواب البرلمان وتأثيرهم الميداني، وهو ما سيكون محددا في الانتخابات القادمة.

مختار الدبابي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى