بديل الحرب الباردة
نحن أمام "سور من المسيّرات وملحقاتها بين روسيا وأوروبا الغربية" وأسوار أخرى رقمية غاية في التعقيد، تتمدد في كل شرايين الحياة، وتتدافع فيما بينها في محاولة لكل طرف أن يلتقط الثمرة، ما يعني أن عامل الإقصاء في لغته غير الإنسانية مقبل على نشاط وتقنيات عسكرية هي أكثر خطورة من الصواريخ العملاقة، والقنابل الذرية
انتهت الحرب الباردة إلى غير عودة، ليس فقط لأن الاتحاد السوفييتي أفضى إلى آخرته، فالبديل للاتحاد السوفييتي لا يزال موجوداً رغم تخلفه التقني عن مجاراة الغرب، لكن سبباً مهماً لن يعيد الحرب الباردة من جديد، لأنها ولدت وانتمت لزمن غير هذا الزمن، الذي كان يتطلب فيها حضور الظل البشري في ميدان المعركة الصامتة التي عرفت مجازاً بــ”حرب الجواسيس” والتي لم تعد بذات القدر اليوم، فالتكنولوجيا المتاحة تحسم فكرة العنصر الفاعل في عالم يمكن فيه الحصول على المعلومة الكامنة ما وراء الجدران، وقادرة على أداء مهمات كبيرة كانت تتطلب حضوراً بشرياً فاعلاً، ولم تعد اليوم كذلك، فقد تبخرت فكرة الاعتماد على ملايين الجنود للوقوف على جدران الدول لحراستها أمام طفرة الاتصالات التي فرضت متغيراتها على عناصر القوة، والتي أصبحت قادرة على طباعة صورة المخيلة، في مجسمات مادية في فترة وجيزة بفعل العقول النابضة وبصمات الأتمتة حتى عصر الذكاء الصناعي.
على مستوى القارة العجوز التي لم تعد تتذكر أصوات المدافع، لكنها رأت سيل اللاجئين بعد المسألة الأوكرانية، والجديد في أسلحة الدفاع هو ما تم الإعلان عنه، وهو “سور من الطائرات المسيرة يمتد من النروج حتى بولندا” والهدف هو “استخدام طائرات مسيرة وتكنولوجيا أخرى لحماية الحدود بالإضافة إلى أنظمة مضادة للطائرات المسيرة القادمة من خارج حدود الاتحاد الأوروبي”.
والخبر جاء من ليتوانيا ومفاده أن الدول الست الأعضاء في حلف شمال الأطلسي المجاورة لروسيا وافقت على إقامة “سور من المسيرات” بهدف الدفاع عن حدودها.
في المخيلة القريبة كانت الصورة تحاكي المستقبل، وفي القريب المتاح، بات كثير من الخيال متوفراً كحقيقة، فالرجل الآلي الأسطوري الذي ظهر في أفلام الكارتون والسينما، يتجسد بالأشكال التي نريد، في ثورة علمية سريعة الخطى، دفعت البشرية في سرعات فلكية وإنجازات خدمية متسارعة، من الضرورات حتى الرفاهية، حتى أوشك السؤال القديم في السينما هل ستحكمنا الآلات، وأوشك أن يكون حقيقياً.
ولكن يبقى التزاحم الفطري بين الإنساني والعالم الآخر، عالم السلاح والقوة، وهنا طفرة القفز نحو السلطة، وعقدة السياسة، تعيد برمجة العقل البشري الذي تهمه عناصر القوة، ليكون له الحظ الأوفر في المعركة بين الاحتياجات الإنسانية والقفز فوقها.
في إشكالية السلطة هذه، يبقى الجانب الأبرز أن تأخذ عناصر القوة اليد العليا على حساب الاستثمار الإنساني، فالسوفييت عجزوا عن تقديم مستلزمات الحياة لجمهورهم أمام هوس اللحاق بعوامل القوة على عكس الغرب الذي فصل في هذه المعادلة الرقمية، رغم أن كاهل الحرب أبطأ من تسارع زمن التقنية نسبياً، ما يعني أن الغرب يسير باتجاه العوامل الإنسانية نظراً للتكوين البنيوي للسياسة والمجتمع، على نقيض الروس، الذين لديهم آلية الكتلة الواحدة وراء الفكرة والتنفيذ، فمسألة عوالم التسلح بين الغرب والشرق ماضية بقوة إلى الأمام، لكنها ليست وفق عوامل الحرب الباردة، بقدر ما هي عوامل إبداعية متقدمة، فالحرب الباردة بلا شك دفعت ثورة الاتصالات بقوة، رغم أنها أبطأت جوانب إنسانية كبرى، غير أن جديد “عالم الطائرات المسيّرة” سيعيد هيكلة عوامل المجهول الفاعلة في الحروب، خصوصاً إذا ما أدركنا المكون العقلي الكامن وراء فكرة هذه التقنيات، الذي هو “مكون الإقصاء” العامل الصعب في الفكرة البنيوية للمعادلة في المنافسة بين أوجه الصراع.
في الجانب المنظور تبقى مسألة الإقصاء من بين الأدوات المتاحة والتي تتمثل في حرمان شركات ومؤسسات دول الخصم من الوصول إلى أنواع من المعادن مثلاً، تحت مظلة العقوبات الاقتصادية، وهذه العقوبات سواء تحت المظلة الدولية أو الهيمنة التي تحول دون حرية انتقال المادة المحفزة في مجال المنتج التقني، لكنها تبقى مجرد عمليات تجميلية تؤخر في شيخوخة المرحلة التي يفرضها عالمنا المتغير السريع، والذي يصبح أكثر إنجاباً وولادة طالما أن صراع العقول بوابة مفتوحة حتى في دول الظل.
نحن أمام “سور من المسيّرات وملحقاتها بين روسيا وأوروبا الغربية” وأسوار أخرى رقمية غاية في التعقيد، تتمدد في كل شرايين الحياة، وتتدافع فيما بينها في محاولة لكل طرف أن يلتقط الثمرة، ما يعني أن عامل الإقصاء في لغته غير الإنسانية مقبل على نشاط وتقنيات عسكرية هي أكثر خطورة من الصواريخ العملاقة، والقنابل الذرية، وغير ذلك من الأسلحة التي لم يعد استخدامها مقبولاً مهما كان الاختلاف على طبيعة الخصم، وبالتالي هل نشهد رعباً مماثلاً لما شهدناه في العديد من أفلام السينما التي تصنع مقاتلاً مجهولاً، يخترق الجدران وينجز مهماته بصمت، ويصل إلى ما لم يصل إليه أحد.
في الصورة القصيرة والواضحة والتجريبية غير المبتكرة، فكرة الإقصاء في عالم القرار، وفي صورة الظل، هل تصبح حروب المستقبل صامتة لدرجة أن أحداً لن يعرف كيف تبدو اللعبة، وهو ما يذكرنا بما تم نشره قبل سنوات عن قيام فرنسا بالتعاقد مع روائيين وأدباء من كُتّاب الخيال العلمي وبحسب تقرير أصدرته وكالة الابتكار الدفاعي الفرنسية أن الروائيين “سيقدّمون سيناريوهات عن تهديدات” قد لا تخطر على بال الخبراء الاستراتيجيين العسكريين وهو البرنامج الذي ستتضمن هذه السيناريوهات الطرق المحتملة التي قد يستفيد بها الإرهابيون أو حكومات العدو من التكنولوجيا المتقدمة”. هنا تبدو حكاية ملهمة ومثيرة بالفعل.
ويبقى السؤال، فهل أدخلتنا الطائرات المسيرة في فكرة الإقصاء من خلال اجتيازها الحواجز والجغرافيا بحيث باتت تقوم بما لم يكن قادرا على القيام به زمن الحرب الباردة، وهل هي بداية بديل عناصر القوة في متغيرات المستقبل.