منذ بداية الحرب الإسرائيلية الهمجية على قطاع غزة أصبحت العلاقة بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حديث العالم.
في البداية شغلت العلاقة العالم بسبب اندفاع بايدن اللافت لدعم إسرائيل وزيارته تل أبيب في الساعات الأولى التي أعقبت هجوم حماس وكأنه يزور ولاية أمريكية تعرّضت لكارثة. ثم تحوّلت العلاقة مع مرور الأيام إلى لغزّ يُحيّر العالم ويثير التكهنات بسبب ما يبدو ظاهريا تباعدا في المواقف بين رئيس أمريكي يدعو إلى خفض وتيرة الحرب، ورئيس وزراء إسرائيلي مصمم على التصعيد غير مكترث لوقوف العالم كله في وجهه.
حاليا هي علاقة فريدة من نوعها، يجوز القول إنها صريحة وواضحة لا يشوبها أيّ غموض، يعرف كلٌّ من طرفيها ما له وما عليه. ويجوز القول، في المقابل، إنها غامضة ومعقّدة لا أحد من طرفيها يطيق الآخر، وكل طرف فيها يمقت الثاني ويتمنى سقوطه اليوم قبل الغد.
منذ بداية الحرب وإمعان نتنياهو وأركانه في نشر القتل والخراب في غزة، يبدو الحديث عن علاقة بين رجلين أقوى منه عن بلدين أو حكومتين، رغم أننا بصدد دولتين يقال لنا دائما إنهما ديمقراطيتان نموذجيتان تحكمهما مؤسسات وقوانين وقيم متراكمة.
من هنا الأسئلة الكثيرة والجدل المتصاعد حول شكل هذه العلاقة وحقيقتها.
أطالع يوميا في صحف العالم آراءً لكبار المعلّقين والسياسيين عن هذه العلاقة. يوميا تقع عيني على قراءات وتحليلات تذهب من النقيض إلى النقيض: من التي تزعم أن الرجلين يمقت أحدهما الآخر إلى درجة لا تُصدّق، إلى التي تقول إنهما على ودّ كبير وأن ما يُكتب ويُنشر عن خلافات عميقة بينهما لا أساس له وفي أسوأ الأحوال مجرد تكهنات هدفها سياسي داخلي يوظفها كل من بايدن ونتنياهو لأجندات محلية لأن كليهما مأزوم داخليا أمام ناخبيه ومعزول دوليا.
يتمحور الجدل حول ثنائية شطرها الأول أن مصير إسرائيل بين أيدي أمريكا، وأن بايدن يستطيع وقف الحرب لكنه لا يريد. وشطرها الآخر يرى أن مصير أمريكا بين أيدي إسرائيل وأن بايدن يريد وقف الحرب لكنه لا يستطيع.
في وجهتي النظر ما يكفي من الحجج لإقناع المتلقي.
الرأي القائل إن العلاقة واضحة وصحية لا تحتاج إلى كل هذا الحبر والجدل ينطلق من فكرة أن بايدن مقتنع تمام الاقتناع في دفاعه عن نتنياهو ومن ورائه إسرائيل كلها حتى لو خاطر بحظوظه الانتخابية. فإسرائيل بالنسبة لبايدن، وفق هذا الرأي، ورقة تستحق أن يخاطر من أجلها، وتصريحاته طيلة الخمسين سنة الماضية عن إسرائيل ووجودها وأمنها كلها تصب في ذلك وتشي برجل مستسلم في حبّه الجامح لإسرائيل مهما قال فيه الآخرون.
تدرك المؤسسة السياسية في إسرائيل هذه المعادلة، وتدرك أن غضب واشنطن محدود وظرفي وأن أيّ إدارة أمريكية، مهما بلغ استياؤها من إسرائيل، تمضغها لكن لن تبلعها. وفي إسرائيل حرص دؤوب على استغلال هذا الواقع إلى أبعد الحدود.
أما الرأي الذي يرى مصير أمريكا في يد إسرائيل بحكم سطوة المال والنفوذ الإعلامي، وانسحاب ذلك على العلاقة بين بايدن ونتنياهو، فينطلق من فكرة أن الإدارة الأمريكية كلها تورطت مع نتنياهو ولا تستطيع الفكاك منه، وأن سوء حظ بايدن وطاقمه جعل الحرب على غزة تجري في عام الانتخابات ويقودها نتنياهو وعتاة العنصريين والمتطرفين في المجتمع السياسي الإسرائيلي.
يرى هذا الرأي أيضا أن الود بين بايدن ونتنياهو في تراجع وتشوبه بعض المنغصات التي تعود إلى عتب متجذر لدى المؤسسة السياسية في إسرائيل على الديمقراطيين الأمريكيين منطلقه اعتقاد راسخ أنهم أقل حماسا وحرصا على إسرائيل وأمنها مقارنة بالجمهوريين.
هناك معطيات تزيد الحيرة والفضول، منها أن بايدن ينتقد الحرب الإسرائيلية على غزة عدّة مرات في اليوم و«يتألم» لعدد ضحاياها، لكن حماسه لشحن المزيد من الأسلحة الفتاكة والخبراء لإسرائيل يتزايد كلما تزايد تعطش الجيش الإسرائيلي لدماء الفلسطينيين وارتفع عدد ضحايا تلك الأسلحة. ومنها أن بايدن لم يجرؤ على انتقاد نتنياهو علنا ولو مرة واحدة، رغم إجرامه الذي تجاوز الحدود، ورغم اليقين أنه في سرّه وبين أقرب مساعديه يقول فيه كلاما قاسيا وشتائم يستحي المرء من تكرارها هنا.
ما من شك أن الرئيس الأمريكي غاضب ومستاء، لكنه لا يستطيع إعلان الحرب على نتنياهو مهما بلغت بشاعة الحرب في غزة. هناك مقدّسات لا يجرؤ أيّ رئيس أمريكي على تجاوزها بغض النظر عن علاقته الشخصية بمن يحكم في إسرائيل.
وفي نهاية المطاف بايدن على رأس إدارة هي جزء من منظومة عميقة إحدى مهامها المقدّسة حماية إسرائيل وضمان أمنها واستمرارها. ثم تأتي في مرتبة ثانية الحسابات السياسية والانتخابية التي يرافقها دائما في الولايات المتحدة الخوف من قوة اللوبي الداعم لإسرائيل، والقناعة بأن المعسكر الداعم لغزة هذه الأيام، ولفلسطين عموما، محدود القوة وغير مؤثر انتخابيا بشكل يوصل مرشحا إلى المكتب البيضاوي أو يطيح به منه.
لكن هذه مسلمات قديمة، وما لا يجوز إهماله أن الأوراق تداخلت والمعطيات تغيّرت منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فلا اللوبي الداعم لإسرائيل بقي اللاعب الوحيد الآمر الناهي، ولا المعسكر المدافع عن فلسطين بقي هشًّا متفرجا. والدليل أن أحد كبار مساعدي بايدن التقى سرا قادة الجالية المسلمة في ميتشيغان واعترف لهم بخطأ تصرفات الإدارة ومواقفها من غزة، ثم اعتذر عن ذلك.
توفيق رباحي