أمريكا

بايدن: الهروب من مواجهة المشكلة الحقيقية

لا يعرف التاريخ المعاصر حروبا لعب فيها الجيش الأمريكي هذا الدور المزدوج.. السلاح والغطاء السياسي والدبلوماسي للقاتل والغذاء للمقتول.

هل من رجل رشيد (أو امرأة) يبلغ الرئيس الأمريكي بأن سكان غزة لا يحتاجون إلى الإنزال الجوي لطرود الغذاء، ولا يحتاجون إلى رصيف بحري لاستقبال المساعدات الأمريكية والأوروبية؟

يبلغه بأن الحلول التي يقترحها عبارة عن ترقيع انتخابي وأن العالم مُدرك لأزمته ومأزقه.

العمل الجدّي المطلوب والمنتظر من بايدن، إذا كان صادقا ويريد فعلا لهذه المحرقة أن تنتهي، يجب أن يستهدف إسرائيل لأنها الأكثر حاجة إلى مَن يساعدها وينقذها من نفسها. هذا العمى يجعل المؤسسة الأمنية والسياسية في إسرائيل ضحية نفسها وحقدها. أما إصرارها على المضي في ارتكاب محرقتها بحق العزّل في غزة فالمسؤول الأول عنه أمريكا ورجل واحد: بايدن.

من أين يأتي الرئيس الأمريكي بكل هذه الجرأة؟ إصرار خارق على الاستمرار في مدّ إسرائيل بأحدث الأسلحة والقذائف الفتاكة، توفير أقوى أنواع الدعم الاستخباراتي والتجسس على غزة، ممارسة حق النقض في الأمم المتحدة ضد أيّ حديث عن هدنة أو وقف إطلاق نار، لعب دور المحامي الدبلوماسي لإسرائيل؛ ثم ذرف الدموع على سكان غزة وإنزال المساعدات الإنسانية لهم من الجو والحديث عن بناء رصيف بحري عائم لإنقاذهم من المجاعة.

هذه ليست عبقرية كما ادعى بعض المعلقين ممن أذهلتهم «براعة» الجمع بين الاثنين، وإنما أسمى درجات النفاق والسخرية من الضحايا وآلامهم.

بالحد الأدنى من الإنسانية، كان يجب البدء بالتوقف عن إفشال قرارات وقف إطلاق النار في غزة، وكذلك إلغاء شحنات الأسلحة لإسرائيل. هذا أضعف الممكن، وقد كان ولا يزال في متناول الإدارة الأمريكية الوصول إليه بقليل من الجهد والجدية. ما عدا ذلك من أفكار فمجرد هروب من مواجهة المشكلة الحقيقية: القتل والتجويع والتطهير العرقي ومَن يرتكبها باسم ماذا.
إذا كانت التجارب السابقة مختلفة ووضعت بايدن (وغيره من الرؤساء الأمريكيين) في قبضة لوبيات المال والإعلام الداعمة لإسرائيل في الولايات المتحدة، فالظروف الدولية والإقليمية اليوم، وحتى الإسرائيلية المحلية، ناضجة ومهيأة لتتخذ الإدارة الأمريكية موقفا إنسانيا واحدا يحميها من لعنة التاريخ.

الفرق بين الماضي والحاضر يمنح الإدارة الأمريكية والحكومات الأوروبية هامشا من المناورة ومساحة للتحرر من تاريخ حافل من الانحياز الجبان لإسرائيل. اليوم إسرائيل على ضلال وترتكب إبادة يتابعها العالم مباشرة بالصوت والصورة. شعوب العالم واقفة اليوم ضد إسرائيل عن حق وصدق، وتحتج على المحرقة التي تجري في غزة. وثلاثة أرباع سياسييه ضدها، أيضا عن حق وصدق، بينما الربع الأخير ضدها لكن لا يجرؤ على المجاهرة بذلك. أغلب وسائل الإعلام الغربية بدأت تشعر بعار ما فعلت وتحاول تصحيح ما يمكن تصحيحه في انحيازها الأعمى لإسرائيل.

لهذا لن يبدو أيّ زعيم غربي، وخصوصا بايدن، وكأنه فقد صوابه إذا ما اتخذ قرارا شجاعا يفضي ولو بالحد الأدنى إلى وقف الإبادة في غزة. ماذا تحتاج الولايات المتحدة وأوروبا أكثر من هذا لتقولا لإسرائيل كفى؟

في كل الأحوال، أي تغيير في المزاج الغربي سيبدو في ظاهره لمصلحة سكان غزة، ولكنه في الجوهر لصالح الإنسانية تحفظ به ما تبقى لها من هذا الاسم، حتى لو لم يُغيّر صيرورة العالم. وفي نهاية المطاف سيكون تغييرا في صالح إسرائيل ينقذ ماء وجهها ويوقف غرقها الجنوني في مستنقع القتل وسفك الدماء.

سكان غزة في حاجة إلى العيش أكثر من حاجتهم إلى الغذاء. لا معنى لأن توفر لهم إدارة بايدن الغذاء ثم تشجع الجيش الإسرائيلي على الاستمرار في قتلهم. هي عمليا جهود لضمان ألّا يموت سكان غزة جوعا، لأن الموت جوعا وبسوء التغذية خزي وعار لا يمكن الدفاع عنهما بينما هناك دائما طرق لتبرير القتل بالقصف الجوي أو المدفعي.

إلى جانب غرابة الفكرة، ماذا لو أن الموضوع كله من وحي بنيامين نتنياهو وليس بايدن أو فريقه؟ صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية نسبت أمس الإثنين إلى مصدر دبلوماسي قوله إن رئيس الوزراء الإسرائيلي هو صاحب فكرة شحن مساعدات إنسانية إلى غزة بحرا. وقال المصدر الذي اكتفت الصحيفة بوصفه بالرفيع دون أن تكشف هويته، إن نتنياهو طرح الفكرة على الرئيس بايدن في الثاني والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، أي بعد أسبوعين من بدء الحرب على غزة، ثم ناقشها مع الرئيس القبرصي في الحادي والثلاثين منه. وأعاد بايدن ونتنياهو بحث الموضوع مرة أخرى في التاسع عشر من كانون الثاني (يناير) الماضي.

أيّ مصداقية بقيت للفكرة كلها إذا كان وراءها فعلا نتنياهو، مُشعل النيران والإطفائي، وماذا تخفي طياتها؟
وعلى افتراض حسن النية في بايدن (رغم أنه من الصعب جدا) هناك إشكالية التفاصيل اللوجستية والعملية لتوزيع المساعدات الأمريكية على سكان القطاع، والتي يبدو أن الأمريكيين فضلوا إرجاء النظر إليها بواقعية حتى لا يتعثر مسعاهم قبل أن يبدأ.

لا يعرف التاريخ المعاصر حروبا لعب فيها الجيش الأمريكي هذا الدور المزدوج.. السلاح والغطاء السياسي والدبلوماسي للقاتل والغذاء للمقتول. في كل الصراعات المعلنة دعمت الولايات المتحدة دائما طرفا ضد الآخر، وفي أحسن الأحوال وقفت ضد الاثنين (علنا على الأقل).

ليس أغرب من الازدواجية الأمريكية إلا تسابق قادة دول غربية وإقليمية لتشجيعها والانضمام إليها. هؤلاء أيضا، عرب وعجم، وجدوا في «الحلول» الأمريكية حيلة يكذبون بها على أنفسهم وتحميهم من أرواح عشرات الآلاف من الضحايا في غزة التي تطاردهم وستظل تطاردهم.

توفيق رباحي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى