أفريقيا

باسيرو.. من الزنزانة لـ «حكم السنغال»

تمنح التجربة السنغالية شعوراً بالأمل لدى قطاعات واسعة من الشعوب الإفريقية - وحتى العربية - المقهورة، وبالأخص دول غرب إفريقيا الغارقة في الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد أعطى السنغاليون درساً قيماً لبقية الأفارقة.

أثار السنغاليون إعجاب العالم، أثبتوا وفاءهم لصندوق الاقتراع والتغيير السلمي، برغم أن شواهد كثيرة كانت تقول إن المسيرة قد انحرفت في ظل الاحتجاجات العنيفة التي شهدتها السنغال في الأشهر الأخيرة من حكم الرئيس السابق ماكي سالي، عقب تأجيله الانتخابات ورغبته في مدة رئاسية ثالثة، بالمخالفة للدستور، بينما توالت الانقلابات العسكرية في غرب إفريقيا، وكأنها “شوطة” لا نجاة منها. لكن السنغاليين تمسكوا بالديموقراطية التي أرسوها منذ الاستقلال عن فرنسا سنة 1960، ليكتبوا فصلاً جديداً من تاريخهم؛ أما كبرى المفاجآت فهي فوز مرشح المعارضة باسيرو ديوماي فاي بمنصب الرئاسة، من الجولة الأولى، وهو الذي خرج من السجن قبيل الانتخابات بأيام معدودات.

المواطن المجهول

بعد أشهر من الاضطرابات السياسية، أسدل الستار على الانتخابات الرئاسية، في السنغال، بمفاجأة خطفت الأبصار. فاز باسيرو ديوماي فاي مرشح حزب “باستيف” المعارض، بعدما قضى 11 شهراً خلف القضبان بتهمة ازدراء المحكمة.

يبلغ باسيرو 44 عاماً، وهو حاصل على شهادة الماجستير في القانون والإدارة الضريبية، لكن مسيرته السياسية بدأت عندما انضم إلى صديقه عثمان سونكو في تأسيس حزب “باستيف” عام 2014. كان من المفترض أن يكون سونكو هو مرشح المعارضة، لكن صدور حكم من المحكمة ضده، حال دون اشتراكه في الماراثون الرئاسي، ما فتح الباب أمام باسيرو ديوماي فاي، برغم عدم تمتعه بخبرة سياسية كبيرة. انتقل من “مواطن مجهول” إلى “رئيس الدولة”.

وفقاً للخبراء، فقد نجح في قيادة حملة انتخابية نالت ثقة السنغاليين خاصة الشباب والنساء، بمساعدة حليفه عثمان سونكو، إذ طرح برنامجاً انتخابياً يقوم على إزالة آثار الاستعمار وتطوير البلاد؛ واعداً بإجراء إصلاحات اقتصادية واجتماعية، ومكافحة الفساد والبطالة، وتحسين المعيشة للمواطنين، وإعادة هيكلة المؤسسات الحكومية وتعزيز سيادة القانون.

ودعا فاي إلى تغيير واسع، بإبعاد “الفاسدين” من النخبة السياسية، و”المحتكرين” من رجال الأعمال، مع إعادة توزيع الثروة، كذلك إعادة التفاوض على العقود التي أبرمتها الحكومة الحالية مع شركات الطاقة والتعدين وصيد الأسماك، وقال: “لا ينبغي لأحد أن يجعلنا نعتقد أننا لا نستطيع تجسيد سيادتنا”، كما تعهد في أول خطاب بعد انتخابه بنهج حكم رشيد، قائلاً: “أنا ملتزم بالحكم بتواضع وشفافية وبمحاربة الفساد على المستويات كافة”. وأعلن حليفه عثمان سونكو “من الآن فصاعداً، سنكون دولة ذات سيادة ومستقلة تتعاون مع الجميع، ولكن في شراكات مربحة للجانبين”.

استعادة السيادة

وتتضمن رؤية فاي لشعار “استعادة السيادة”، إعادة التفاوض على عقود التعدين والمواد الهيدروكربونية واتفاقيات صيد الأسماك في الأطلنطي، مع دول الجوار والدول الأوروبية، والتي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ هذا العام، على رجاء أن يؤدي إطلاق إنتاج النفط والغاز إلى تعزيز الاقتصاد، وتطوير القطاع الزراعي لضمان الأمن الغذائي ومكافحة البطالة، إذ تشكل البطالة بين الشباب أحد أخطر التحديات أمام الرئيس المنتخب، في ظل تزايد معدلات النمو السكاني وانتشار الفقر، ونحو 53% من السكان تحت خط الفقر. وتأتي هجرة الشباب على رأس أولويات فاي؛ ففي ظل أوضاع اقتصادية صعبة وارتفاع التضخم، يضطر الشباب للمخاطرة بحياتهم عبر الهجرة غير المشروعة.

سجل اقتصاد السنغال خلال السنوات الماضية نمواً بين 5 إلى 7 في المئة، لكن النهوض بالاقتصاد ومعالجة مشكلاته المزمنة بحاجة إلى جهود كبيرة. المبشّر في الأمر أن السنغال تضع أقدامها على بداية الطريق؛ كي تنضم إلى نادي منتجي النفط والغاز، بالاشتراك مع جارتها موريتانيا، لكن رغبة فاي في إعادة التفاوض مع الشركاء الأجانب والشركات المستكشفة، قد يخلخل العلاقة مع دول أوروبية، خاصة أن وصوله إلى قصر الحكم قد يهزّ العلاقة التاريخية بين السنغال وفرنسا. أعلن، خلال حملته الانتخابية، أنه يؤيد القطيعة مع السياسات السابقة، في تلميح إلى تغيير نمط هذه العلاقة، مع يعني ضربة جديدة لفرنسا في غرب إفريقيا بعد انحسار نفوذها بالمنطقة. اعتبر خبراء أن الانقلابات الأخيرة في غينيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر والغابون، هي موجة انقلابات ناشئة عن مشاعر مناهضة لباريس.

ويعاني النفوذ الأوروبي التقليدي في السنغال وسائر بلدان الساحل والصحراء منافسة شرسة من جانب روسيا والصين وتركيا والهند، وغيرها. فكل دولة من هذه الدول تريد أن تضع قدماً ثقيلة في المنطقة، على حساب النفوذ الغربي أو على الأقل منافسته، واقتسام جزء من ثروات المنطقة البكر الواعدة. بالطبع، من المبكر جداً القول إن علاقات السنغال مع الغرب ذاهبة في طريق الصدام أو التباعد، ولا سيما أن عواصم الغرب سارعت إلى الترحيب بانتخاب فاي، وبالأجواء السلمية والنزاهة التي تمت فيها الانتخابات الرئاسية السنغالية، وفقاً للمعايير الديموقراطية. وهذا ينقلنا إلى عنصر آخر يرجح استمرارية الشراكة السنغالية – الأوروبية، فالغاز السنغالي يسيل له لعاب الأوروبيين، في ظل الحرب ضد روسيا في أوكرانيا، كما أن مجالات التعاون مع أوروبا تشمل طيفاً واسعاً، في ميادين التجارة والطاقة والصناعة والتكنولوجيا والتعليم والصحة…

نافذة أمل

إن استقرار التجربة الديموقراطية السنغالية يمنح داكار مكانة ومصداقية في إدارة علاقاتها مع الشركاء الدوليين بمن فيهم أوروبا، التي تبدو في حاجة لتقوية شراكتها مع السنغال، كجسر وثيق للتعاون مع دول الساحل والصحراء، لكن ذلك يظل مرهوناً بمدى قدرة أوروبا على تغيير رؤيتها ونهجها وأساليبها تجاه شركائها الأفارقة.

تمنح التجربة السنغالية شعوراً بالأمل لدى قطاعات واسعة من الشعوب الإفريقية – وحتى العربية – المقهورة، وبالأخص دول غرب إفريقيا الغارقة في الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية، فقد أعطى السنغاليون درساً قيماً لبقية الأفارقة، بأن أصوات الشعب يمكنها إحداث التغيير، عبر صناديق الاقتراع، بدل ظهور الدبابات للاستيلاء على السلطة، ما يبرز صورة السنغال كملاذ للديموقراطية والاستقرار في غرب إفريقيا؛ ويضعها في الكفة نفسها مع الديموقراطيات التقليدية في الغرب ويعظم دورها في النظام العالمي.

وهذا ليس جديداً على السنغال، فمنذ استقلالها على يد زعيمها التاريخي الأديب ليوبولد سنغور، حافظ الرجل على تقاليد الانتقال السلمي للسلطة، ثم تنحى عن الرئاسة ليتفرغ للثقافة والإبداع، وواصل السنغاليون هذا النهج إلى اليوم، مع أن الانقلابات العسكرية والرئاسة مدى الحياة سمة للحكم في دول إفريقية وعربية، بالقارة السمراء الموبوءة بالديكتاتورية. ففي وقت تشهد منطقة الساحل والصحراء اضطرابات سياسية وانقلابات عسكرية وتفشي الجماعات الجهادية مثل “بوكو حرام” و”القاعدة”، تقدم السنغال نموذجاً للتعايش السلمي بين مكوناتها الإثنية والدينية.

وتلعب الطرق الصوفية أهمية خاصة كمرجعية روحية للنخب السياسية وكبريات العائلات ذات النفوذ بالبلاد، حيث تنفر الطرق الصوفية من اللجوء للعنف، إلى درجة أن بعض المراقبين يرون أن أحد أسباب فوز فاي بالرئاسة هو “التصويت العقابي” من جانب السنغاليين ضد مرشح الائتلاف الحاكم أمادو با الذي يسانده الرئيس المنتهية ولايته ماكي سال؛ إذ لجأ الأخير إلى العنف بشدة في مواجهة المحتجين على تأجيل الانتخابات.

إن إمكانية نجاح الرئيس السنغالي المنتخب في تنفيذ تجربة “حكم رشيد” في السنغال تفتح أبواباً موصدة أمام شعوب أخرى تعاني نير الاستبداد والفساد، في الجوار القريب والبعيد!

محمد حسين أبو الحسن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى