قد يكون مفاجئا أن الولايات المتحدة التي استخدمت حق الفيتو ثلاث مرات ضد مشاريع قوانين لصالح الفلسطينيين ولوضع حد لمعاناتهم المتفاقمة التي بلغت مبلغ الموت من الجوع، تتصرف بطريقة مغايرة لتتقدم بما كانت ترفضه وتشهر بطاقة الفيتو الحمراء بوجهه.
لكن ما هذا التغير في الموقف والإلحاح على وقف إطلاق النار؟ وكيف بدا الموضوع الإنساني ذا أهمية من نفس الجهة التي زودت إسرائيل بالمال والسلاح، وكانت تصد كل مشروع قرار لصالح الفلسطينيين على غرار مشروع القرار الذي تضعه اليوم على الطاولة الأممية؟
لعل شعبية جو بايدن المنخفضة أحد الأسباب الداعية لهذا الأمر، بالإضافة إلى أن خطاب تشاك شومر، زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ، كان انعطافة واضحة في العلاقة مع الحكومة الإسرائيلية ورئيسها، خاصة أن الأخير يهودي يعبّر عن آراء اليهود في الولايات المتحدة بالضرورة، وهم الآن يشعرون بالقلق من تصرفات حكومة اليمين العنصرية، التي تضر بطبيعة الحال بإسرائيل ولكل شخص يحمل الديانة اليهودية على وجه البسيطة. فإسرائيل تطلق النار بشكل عشوائي وبلا حسيب ولا رقيب ليس في قطاع غزّة فقط بل في الضفة الغربية أيضا. بالأمس القريب قتلت إسرائيل أحد الأشخاص الذين اعتنقوا الديانة اليهودية في الخليل، مما دفع لانتقادات واسعة داخل المجتمع اليهودي ذاته.
ليس هذا فقط، إذا كانت الولايات المتحدة سابقا، تسعى لإخراس جميع الألسن المضادة لإسرائيل وأفعالها التي تجاوزت النّازية، فهي حاليا تريد إخراس الألسن اليمينية المتطرفة في حكومة بنيامين نتنياهو وإخراس نتنياهو نفسه، فقد وصل التراشق الإعلامي إلى حد الطلاق البائن، وأضحت الانتقادات الإسرائيلية مزعجة ومحرجة لأميركا وتاريخها في آن معا. فكما هو معروف رفض نتنياهو الطلبات الأميركية بعدم القيام بعملية عسكرية واسعة في رفح، بدعوى ضرورة ضمان أمن المدنيين هناك، قائلا “رأينا ما فعله الأميركيون في الفلبين”. وتابع قائلا “قاتل الأميركيون في الفلبين في أماكن مأهولة أقل اكتظاظا من غزة، وقتلوا 100 ألف فلبيني” وأضاف “تسببوا بخسائر أكبر من التي تسببنا بها في غزة، لا مفر من عملية برية في رفح”. وذلك حسب القناة 14 العبرية.
نتنياهو يقول، بطريقة أو بأخرى، لا يحق لكم الحديث عن ضمان أمن المدنيين بعدما فعلتم ما فعلتموه في الفلبين، وقتلتم أضعاف من قتلناهم في قطاع غزّة.
وفي المحصلة، يبدو أن كلا من بنيامين نتنياهو وحكومته انتهت صلاحيتهما الأخلاقية، حالهما حال حركة حماس التي لم تتحل بالحد الأدنى من القواعد الأخلاقية في غزوتها في السّابع من أكتوبر، ولم تعد تحظى بتأييد الشّارع الغزّي، خاصة بعد انقلابها وحكمها القمعي الذي أوصل الشعب الفلسطيني إلى وضع سياسي واقتصادي لا يحتمل، بازدواجية معايير مفضوحة. فقد كانت حماس تمنع الانتخابات المحلية من انتخابات بلدية ونقابات وجامعات في قطاع غزّة، وتشارك بها في الضفة سعيا منها للتمدد على حساب منظمة التحرير.
أضف إلى ذلك أن غالبية قادتها يعيشون حياة رغد خارج القطاع هم وعائلاتهم، بمنأى عن القتل والتجويع والتشريد الذي تسببوا فيه لمواطني قطاع غزّة. ولا يفوتنا في هذا المقام التذكير بتحالفاتهم السياسية التي كانت تشكّل إزعاجا وتحديا كبيرا للدول العربية، وبالأخص في الخليج العربي، وتهديد الأمن القومي المصري، وبموقفهم من الأزمة في سوريا الذين حاولوا التراجع عنه ولكن بلا فائدة تذكر، وباختطافهم لقطاع غزة نحو تحالفات عكس هواه ومزاجه العربييْن، في تناقض كامل مع إرث منظمة التحرير الفلسطينية وسياستها المعهودة.
هذا الحضن العربي لم يتخل عن الفلسطينيين كما فعل رعاة حماس، وخير آية على ذلك، الرفض القاطع من مصر والأردن لتهجير الفلسطينيين مما أفشل المخطط الإسرائيلي الخبيث، وإبرام المملكة العربية السعودية عبر ذراعها الإنسانية “مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية”، منذ عدة أيام، مع وكالة الأونروا، مذكرة دعم بقيمة 40 مليون دولار حيث سيوفر هذا الدعم الغذاء لأكثر من 250 ألف شخص وخيماً لـ20 ألف أسرة في قطاع غزة. أمّا سياسيا، فقالت وزارة الخارجية السعودية في بيان بتاريخ 20 /3 /2024، إن المملكة أبلغت الإدارة الأميركية موقفها الثابت بأنه لن تكون هناك علاقات دبلوماسية مع إسرائيل ما لم يتم الاعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة على حدود عام 1967 ووقف الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة.