تفعل الأنظمة المستبدة الشمولية ما لا يخطر على بال الشيطان ذاته لتبقى مستمرة على كرسي الحكم. هذه الأنظمة التي ليست إلا عصابة كبيرة، تستبيح كل قرش في البلاد وتتقاسم الخيرات والموارد والآثار، فالبلاد بطولها وعرضها هي ملكها الشخصي. فالوطن والشعب تابع للقائد ويذود عنه ويفديه بدمه، وليس العكس. وخير آية على ذلك سوريا الأسد، أي أن سوريا تتبع للأسد ومن ممتلكاته الخاصة كأنك تقول سيارة الأسد أو فيلا الأسد، ولكن هنا الملكية بحجم الوطن، وليس أسد سوريا، وهنا تكمن المفارقة.
ولو قلّبت النظر في أسماء المؤسسات والمرافق في سوريا الجميلة الضاربة في عمق التاريخ ويمتد عمرها إلى الآلاف من السنوات وفي أقدم عاصمة في العالم دمشق، لوجدت أن هناك اسمين يتصدران العناوين، الأسد أو الباسل، فقط لا غير. ففي العاصمة والمحافظات والمدن والقرى والبلدات، تجد على سبيل المثال، حديقة الباسل، دوّار الأسد، ضاحية الباسل، مكتبة الأسد، ساحة الباسل، بحيرة الأسد.
غنيّ عن البيان أن النظام المخلوع استثمر تجارياً في هذه المعتقلات، فمجرد خبر أو علامة عن أيّ معتقل بأنه على قيد الحياة يساوي كيلو من الذهب أو عدة ملايين الليرات السورية، وهو أمر يعرفه الجميع في سوريا، لدرجة أن السيناريست الفلسطيني الراحل حسن سامي يوسف، ذكره في أكثر من مشهد في مسلسله ذائع الصيت “الندم”.
هكذا يكون حال الأنظمة الاستبدادية، التي تعتقل المواطنين بلا جريمة، وتقتلهم بلا سبب، وتسحق عظامهم، كما في مكبس الإعدام في سجن صيدنايا، ومن الوارد أن تغيبهم للعشرات من السنوات في الأقبية والزنازين لأتفه الأسباب، كما حصل مع الفلسطيني بشار شريف علي صالح ابن مدينة جنين، والذي كان من المنتسبين للجبهة الشعبية/القيادة العامة. ترك جنين وأهله وأصدقاءه وذهب للتطوع كفدائي مع القيادة العامة، وفي أحد الأيام يدخل أحمد جبريل المهجع، لكن الشاب بشار لا يقف على قدميه احتراماً لقائده المبجل ويصافحه وهو جالس، فيعاقبه الأخير بوضعه في سجن الريحان الخاص بفصيله وبعد أكثر من عام يسلّمه للمخابرات السورية، ويتنقل بشار بين سجن وآخر، حتى يحرّره الثوار الأسبوع الماضي بعدما أمضى أربعين عاماً في السجون السورية، وهو متواجد حالياً في سفارة دولة فلسطين بدمشق.
ولا آتي بجديد، عندما أذكّر بوجود الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين واللبنانيين و236 معتقلاً أردنياً غالبيتهم في مسلخ صيدنايا البشري ويتوزع الباقي في سجون النظام السوري المخلوع.
طبعاً هذا غيض من فيض، ودمعة مالحة في بحر الدموع والآهات والغصات والألم في سوريا، فهناك الكثير من القصص التي يشيب لها شعر الوِلْدَانِ، وتنشّف الحلق، وتضعك في حالة من الذهول والاندهاش الذي لا يحتمله عاقل.
وبما أن القيادة العامة والصاعقة وفتح الانشقاق من الفصائل التي كانت في خدمة النظام السوري وكان يستعملها لضرب الوحدة الوطنية وشق منظمة التحرير الفلسطينية وتقسيم فتح ذاتها، وحتى توريط جيش التحرير الفلسطيني، هم من شنّوا معارك طرابلس ضد منظمة التحرير الفلسطينية وضد قائدها ياسر عرفات، لأنه رفض أن يكون دمية يحرّك خيوطها حافظ الأسد، وأن يبقى القرار الوطني الفلسطيني مستقلاً مهما كان الثمن.
إقرأ أيضا : سوريا… من سيكتب الدستور؟
من المعروف أنه بعد انتهاء معارك طرابلس، راح أحمد جبريل يركل جثث الشهداء المنتمين لحركة فتح وهو يصرخ “جميعكم عناصر ما في بينكم ياسر عرفات ولا خليل الوزير.”
وعند استشهاد خليل الوزير في تونس، ودفن جثمانه في مخيم اليرموك، قام سكان المخيم برفع سيارة ياسر عرفات، تأكيداً على شعبيته العارمة وشرعيته المستمدة من شعبه الباسل. وحين أقيم مجلس عزاء لأبوجهاد الوزير في الملعب البلدي في مخيم اليرموك، صافح أحمد جبريل معزّياً أم جهاد انتصار الوزير، التي قالت له “حمدت الله مراراً وتكراراً لأن اليهود من قتلوا خليل ولم يمت على أيديكم أنتم.” فأشاح جبريل بوجهه، وانصرف ولم ينبس ببنت شفه.
ومن المعروف أن حرب المخيمات التي شنتها كل من القيادة العامة وفتح الانشقاق والصاعقة وحركة أمل استمرت لأكثر من أربع سنوات، وعندما اشتعلت الانتفاضة الأولى أوقفوا حصارهم للمخيمات بعد عام.
فأكثر ما يفضح محورهم ويسقط ورقة التوت عنهم، هو استشهاد قادة وعناصر منظمة التحرير الفلسطينية على يد الإسرائيليين، كما حدث حين ضربت الطائرات الإسرائيلية مقرات منظمة التحرير في 1 أكتوبر من العام 1985 في حمام الشط في تونس الخضراء.
بما أن ياسر عرفات ورفاقه خونة ومفرّطون، لم تلاحقهم طائرات العدو في تونس، حتى بعد خروجهم من بيروت!
ولن ينسَ أهل مخيم اليرموك، كيف قام تنظيم القيادة العامة في الأشهر الأولى من الثورة السورية بإرسال الشباب المتحمسين، ليستشهدوا على حدود الجولان، ويساعد النظام في تصدير أزماته، بل شارك هذا الفصيل مع فصيل آخر يسمى “فلسطين حرّة” بحصار وتجويع أهل مخيم اليرموك حتى مات بعضهم جوعاً.
ولا يغيب عن الذاكرة أن جزار مخيم اليرموك، موفق دواه، وهو يحاكم اليوم في ألمانيا من المنتسبين لفصيل فلسطين حرّة. ولعل أهم مكاسب اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، هو انتهاء كابوس جيش التحرير الفلسطيني، حيث كانت الخدمة تمتد لحوالي خمس سنوات، ويتم توزيعهم على الحواجز وإجبارهم على خوض المعارك مع المعارضة المسلحة، مما أدى لاستشهاد العشرات منهم، في معركة ليس لهم فيها ناقة ولا جمل. وكانت الخدمة العسكرية هي السبب الرئيسي لهجرة الكثير من الشبان السوريين والفلسطينيين إلى أوروبا.
سقطت هذه الفصائل بسقوط النظام السوري غير مأسوف عليها وعليه، وسلّمت أسلحتها ومقراتها صاغرة، للدولة الجديدة في سوريا، تلك الأسلحة التي كانت توجهها نحو صدر شعبها وتشارك النظام في مقتلته ضد شعبه فهي ليست إلا بندقية للإيجار.
ما يجمع هذه الفصائل هو التبعية للنظام السوري والتمويل الإيراني، وهم يكنون عداوة غريبة للدول العربية، ويسيرون بذات القافلة الإيرانية التي تعادي المحيط العربي، وما زالت تحتل أراضي عربية في العراق والإمارات، الأهواز التي تنتج 750 ألف برميل نفط يوميا وهي توصف بأنها تسبح فوق بحر من النفط، وتشكّل خوزستان لوحدها ثلثي إنتاج إيران من النفط، ومن نافل القول إنها كنوز عربية تستبيحها إيران منذ قرن كامل، وهي كما يعلم القاصي والداني أراض عراقية.
وتحتل إيران طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبوموسى وهي جزر إماراتية. ورغم صغر مساحة الجزر الثلاث، إلا أنها ذات أهمية إستراتيجية واقتصادية كبيرة جدا، كونها تشرف على مضيق هرمز الذي يمر عبره يوميا حوالي 40 في المئة من الإنتاج العالمي من النفط. ومن يسيطر على هذه الجزر يتحكم بحركة الملاحة البحرية في الخليج.
تلك الأراضي العربية لم يسبق أن تحدث نظام الممانعة والمقاومة القومي لا هو ولا الفصائل الفلسطينية التي كانت تتبعه مغمضة العينين، عن ضرورة انسحاب إيران منها وعودتها إلى أصحابها العرب الأقحاح.