انتهاء زمن أردوغان مع الإخوان
نجح الرئيس التركي في الاستفادة من مروحته السياسية الواسعة التي مكنته من إعادة النظر في بعض تصوراته، واستفاد من منهجه البراغماتي في تحاشي الكثير من العقبات، ففي اللحظة التي كان يظهر فيها وقد صل إلى الحافة يتمكن من الهبوط الناعم، وهو ما أفاده في عودة العلاقات مع دول ناصبها العداء، لم يتصور أحد أن تتم المصالحة معها
خفت نجم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في المنطقة بعد سقوط رهانه على جماعة الإخوان في حكم الدول التي ذاع صيتها فيها، وعندما زايد في الدفاع عن لبنان أخيرا تعامل معه البعض على أنه موّال مكرر بعد مشاركته الشفهية في الدفاع عن قطاع غزة، ولم تفلح انتقاداته واتهاماته لإسرائيل ورئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في الوثوق بإمكانية أن تتبنى بلاده تصرفات صارمة لتخفيف معاناة الفلسطينيين.
خسر أردوغان جانبا كبيرا من حيويته الإقليمية التي حصل عليها بتدخلات سافرة في بعض دول المنطقة، تصور معها مؤيدو الإخوان أنها ستمكنهم من بسط سيطرتهم ونفوذهم على دول نشطوا وتمددوا فيها، وتعاملوا معه باعتباره خليفة المسلمين الجديد، إلى أن اضطر إلى تغيير حساباته السياسية، وقام بالمصالحة مع مصر ودول خليجية تناصب الإخوان العداء، وظهرت ملامح تحول في رؤيته، رآها البعض من قبيل التقية، ونظر لها آخرون على أنها يأس من الرهان على تيار الإسلام السياسي.
لم تغامر تركيا بدعم حركة حماس الإسلامية ماديا، واكتفت بمناورات تقليدية يميل إليها أردوغان عندما يريد الحفاظ على شعرة معاوية، ويميل نحو المقاومة معنويا، ومع إسرائيل والغرب عمليا، ويعرف أن النتائج التي سوف تتمخض عنها الحرب في غزة لن تكون في صالح حماس وإن نجحت في الصمود على مدار تسعة أشهر من الضربات الإسرائيلية الموجعة، فالخارطة التي سيتم رسمها وتتضمن دولة فلسطينية أو لا تتضمنها سوف تصطحب معها تغيرات إقليمية تعمل ضد مصالح الإخوان.
انتهى زمن أردوغان في المتاجرة بالورقة الإسلامية بالمنطقة، وانتهى زمن من روجوا وصدقوا دعاية الإخوان بأنه أكبر وأهم مناصر لهم، فقد بات معنيا بتطوير علاقاته مع مصر والسعودية والإمارات، وطرق أبواب سوريا التي خاض ضد نظامها معارك عسكرية وسياسية شرسة، وتوصل إلى قناعة بأن المصالحة مع الرئيس السوري بشار الأسد ممكنة، وهي آخر ورقة رأى مناصرو الإخوان أن يقدم عليها، فقد مسح بها تاريخا طويلا من المناوشات، وطوى صفحة واعدة بالطموحات.
لا يهم الدولة التركية الإخوان أو غيرهم، لكن يهمها أن تدافع عن مصالحها، فعندما بدا نظام الحكم مندمجا مع الجماعة كانت أنقرة تعتقد أنها أداة سليمة لتحقيق أهدافها، وتنصلت أو تحللت منها للأسباب نفسها، فالعبء الذي يحمله مؤيدو الإخوان ثقيل، ويعرّض من يتبناه لمشكلات، وتركيا التي تتشدق بالوقوف شفهيا في صف حماس لا تستطيع أن تقدم على فتح مكتب لها في أنقرة أو اسطنبول وهي ترى ما تواجهه قطر.
يلعب الرئيس التركي على المساحات السياسية والأمنية الشاغرة، ويحاول أن يملأها من خلال مقاربات رمزية، ويجد صعوبة بالغة للدخول في مواجهة ساخنة مع أي من القوى الحيوية في المنطقة، فعلاقاته تكاد تكون جيدة مع غالبية، وربما جميع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة والعالم، فهو قريب من الولايات المتحدة وروسيا والصين، وقريب من مصر والسعودية والإمارات وإسرائيل وإثيوبيا وحماس، لا توجد جهة مهمة، تركيا في عداء محتدم معها، كما كان الحال منذ عشر سنوات.
عادت أنقرة تدريجيا إلى سياسة تصفير الأزمات الخارجية مع دول عديدة، وغير مستعدة للدخول في عداوة مع إسرائيل وهي تعلم أن مستقبل حماس والإخوان عموما في السلطة قد أفل أو على وشك الأفول، لكن الرئيس التركي مضطر أحيانا إلى مغازلة التيار الإسلامي في حزبه (العدالة والتنمية)، ودغدغة مشاعر شريحة من المواطنين لا تزال تراهن على الإخوان وترى فرصة لضخ دماء جديدة في عروقها، اعتقادا بأن ما قامت به حماس في مواجهة إسرائيل سيعيد إلى الجماعة هيبتها.
يتجاهل هؤلاء أن عملية طوفان الأقصى، مهما كانت أهميتها الإستراتيجية في عودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية، كرّست العداء لحماس وجماعتها الأم (الإخوان)، فالدول الغربية التي شجعت أردوغان على دعم الإسلاميين والوقوف خلف الإخوان بذريعة الديمقراطية والحريات والاعتدال، راجعت مواقفها وتيقنت أن الجماعة أصل الداء الذي انحدر منه المتطرفون في العالم، ومن يدورون في فلكها ويتبعون منهجها لا يقلون خطرا عن داعش والقاعدة وغيرهما.
فهم أردوغان هذه الرسالة وسارع في تحركاته التي لا تجعله قريبا من الإخوان أو داعما لحماس من خلال توثيق علاقاته مع دول على خصومة مع التيار الإسلامي كتبرئة لذمته من التحالف معه، ويبدو مسايرا للموقف الغربي العام الذي أخذ يتبنى رؤية سياسية غير متعاطفة مع الإخوان، ويقلق من منح هذا التيار المساحة السابقة للحركة في المنطقة، وجاءت الحرب على غزة لتضفي تأييدا مضاعفا ضد الإخوان، وهو ما فهمه أردوغان، وقد يدفعه إلى المزيد من الخطوات ليظهر كمن يحرص على المشاركة في تقليم أظافر الجماعة بعد أن ترك لها هامشا للحركة في بلاده.
عندما تهدأ عواصف الحرب في غزة ويتم التوصل إلى وقف لإطلاق النار لن يتمكن الرئيس التركي من التسامح مع هذا الهامش، والذي قد يصبح حملا سياسيا ضاغطا عليه، فتل أبيب التي تربطها علاقات جيدة مع أنقرة لن تنسى لها استضافة قيادات حركة حماس التي ألحقت بها هزيمة قاسية في السابع من أكتوبر الماضي، ولن تتجاهل أن اسطنبول كانت حاضنة للكثير من عناصر جماعة الإخوان، والتي جيّرت أبواقها الإعلامية في خضم الحرب للنيل من جيش إسرائيل.
يتوقف مستوى البعد عن الإخوان على ما سوف يتبلور من رؤية غربية صارمة حيال الجماعة، فلا تزال هناك جهات تراهن عليها في خدمة أهدافها بالمنطقة، وعلى حجم ضغوط المعارضة التركية التي رأت أن أنقرة تعرضت لأذى بسبب احتضان التيار الإسلامي السنوات الماضية، وأن مشروع أردوغان الذي عوّل على الإخوان كرافعة إقليمية له كاد يؤدي إلى خسائر باهظة للدولة، وأن تصحيح الخطأ ضرورة عاجلة.
نجح الرئيس التركي في الاستفادة من مروحته السياسية الواسعة التي مكنته من إعادة النظر في بعض تصوراته، واستفاد من منهجه البراغماتي في تحاشي الكثير من العقبات، ففي اللحظة التي كان يظهر فيها وقد صل إلى الحافة يتمكن من الهبوط الناعم، وهو ما أفاده في عودة العلاقات مع دول ناصبها العداء، لم يتصور أحد أن تتم المصالحة معها، الأمر الذي سوف يتكرر مع إسرائيل التي أوحى دعمه الظاهر للبنان وانتصاره الشفهي لحماس في غزة أن العلاقة مع تل أبيب وصلت إلى طريق مسدود، لكن غير مستبعد أن تشهد الأيام المقبلة هبوطا ناعما جديدا معها، حيث بات يدرك أن زمن علاقته مع الإخوان انتهى سياسيا، في هذه المرحلة على الأقل.