روسيا

انتصار روسيا مستحيل وهزيمتها كارثة على السلم العالمي!

ماذا لو فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ هل يسارع إلى إنهاء الحرب؟ وماذا لو فازت كامالا هاريس؟ هل تواصل الإدارة الجديدة سياسة إدارة الرئيس جو بايدن لحرب طويلة تدوم أعواماً لاستنزاف روسيا وإنهاكها بهدف إخراجها من معادلة المواجهة الكبرى المقبلة مع الصين؟

لم يكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليتوقع أن تنتقل الحرب التي شنّها على أوكرانيا في 24 شباط (فبراير) 2022 إلى قلب الأراضي الروسية في إقليم كورسك، حيث يتواصل هجوم القوات الأوكرانية فيها منذ 6 آب (أغسطس)، وقد تمّ احتلال نحو 1300 كيلومتر مربع من الأراضي الروسية. فالهجوم الروسي الذي انطلق قبل عامين ونصف العام، هَدَف إلى ضمّ المقاطعات الأربع التي يتشكّل منها إقليم الدونباس في أقصى الشرق الأوكراني إلى الأراضي التي سبق أن احتلتها روسيا في حرب عام 2014، إضافة إلى شبه جزيرة القرم الاستراتيجية التي أعلن الرئيس بوتين ضمّها رسمياً إلى أراضي الاتحاد الروسي.

ففي منطلق الحرب، أطلق الرئيس بوتين في خطاب متلفز عليها تسمية “العملية العسكرية الخاصة”، مشدّداً على أنها ليست حرباً، ومعتبراً ضمناً أن أوكرانيا الأصغر والأضعف من روسيا بشكل شبه مطلق، لا تستحق أن تُشنّ ضدّها حرب من قبل ثاني أكبر الجيوش في العالم. ويجمع المراقبون، أقله الغربيون والمحايدون، على أن الرئيس الروسي وحوله معظم القيادة في الكرملين (ليس معروفاً بدقة موقف كبار الضباط في الجيش وأجهزة الاستخبارات)، أطلقوا العملية وفي يقينهم أنها ستكون نزهة “استجمام” تنتهي في أقل من أسبوع بسقوط العاصمة كييف والقبض على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي وأعضاء حكومته أو فرارهم منها، ليتمّ تغيير الحكم واستبداله بحكم موالٍ لروسيا الاتحادية. فالصراع على الحكم والنظام في أوكرانيا لم يتوقّف بين روسيا والغرب منذ ثورة “ميدان الاستقلال” في عام 2014، التي أسقطت الرئيس السابق فيكتور يانوكوفيتش القريب من موسكو. ومن المعروف أن الرئيس بوتين كان ولا يزال ينظر بنفس الطريقة إلى أوكرانيا ومجموعة الدول والجمهوريات التي كانت في ما مضى جزءاً من المدى الحيوي للنفوذ السوفياتي أو جزءاً من الاتحاد السوفياتي نفسه. وهذا عمّق تفكير الرئيس الروسي الذي يرى نفسه مكلّفاً باستعادة مجد روسيا القيصرية، وهو بصرف النظر عن النظام الشيوعي، يصنّف الاتحاد السوفياتي امتداداً تاريخياً للإمبراطورية المترامية الأطراف التي بناها قياصرة كبار مثل بطرس الأول، وكاترين الثانية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر. وفي مناسبات عدة قبل أعوام، تحدث الرئيس الروسي صراحةً عن الجرح العميق الذي خلّفه سقوط الاتحاد السوفياتي في روسيا وفي نفسه، كأحد المنتمين إلى الجهاز الأمني السوفياتي في ألمانيا الشرقية. واعتبر بوتين أن مهمته تكمن في استعادة عناصر شكّلت الإمبراطورية الروسية، بدءاً بالنفوذ الإقليمي المسمّى في علم الجيوسياسية “المدى الحيوي”. طبعاً، أوكرانيا هي ضمن هذا التصور. لكن في مقال طويل نشره الرئيس الروسي قبل هجوم عام 2022، تحدث بوتين مطولاً عن الجذور التاريخية والإتنية والدينية المشتركة بين روسيا وأوكرانيا، ليستنتج أنه لا توجد أمّة أوكرانية منفصلة عن الأمّة الروسية. وبهذا المعنى، ذهب بوتين أبعد من لعبة التنافس على النفوذ مع الغرب. ذهب إلى حدّ نقض وجود أوكرانيا كدولة والأوكرانيين كشعب منفصل. وبالتالي، شكّلت الحرب التي بدأت في 24 شباط (فبراير) 2022 محاولة من موسكو لابتلاع البلاد، أكثر مما كانت محاولة لتوسيع نطاق النفوذ والمصالح. فالحرب كما رسمها الرئيس الروسي كانت حرباً أيديولوجية بمقدار ما كانت حرباً جيوسياسية.

لكن، بمرور الأسابيع الأولى للهجوم الروسي، بدت الصورة مختلفة عمّا تصوّرته القيادة الروسية. فالهجوم على كييف فشل، والقوات الأوكرانية الأقل عدداً وقوة وتجهيزاً تمكنت من الصمود، مستفيدةً من الدعم الأميركي والغربي الواسع بالخبرات والمعلومات والأسلحة والتجهيزات التقنية والتدريب، وفق أساليب القتال التي يعتمدها حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهكذا، من دون الغوص في تفاصيل الهجوم الأوكراني المضاد الأول في عام 2022، ثم الهجوم المضاد الثاني في عام 2023 الذي تعثر وفشل، ومن دون الخوض في تفاصيل الهجوم الروسي الفاشل ثم الدفاع الناجح في ما بعد صيف 2023، يمكن القول إن حرب أوكرانيا طالت إلى حدّ بعيد. وبات واضحاً أن القوة العسكرية الروسية كافية لخوض حرب طويلة نسبياً، لكنها غير كافية لتحقيق انتصار حاسم وإيقاف الحرب في وقت يناسب المصالح الروسية. بدا هذا واضحاً في الحرب الدفاعية التي خاضتها القوات الروسية بنجاح، فصدّت الهجوم الأوكراني المضاد في العام الماضي. كما بدا واضحاً في فشل موسكو بإعادة احتلال مدينة خاركيف التي تقع على مقربة نسبية من الحدود مع روسيا.

ما استطاعت دول الغرب داعمة أوكرانيا بالسلاح والمال، أن تلبّي دائماً مطالب كييف. وقد أسهمت المشاكل السياسية داخل الكونغرس الأميركي في تأخير إقرار حزمة مهمّة من المساعدات العسكرية والمالية، والتي بلغت قرابة 65 مليار دولار، مدة 6 أشهر، عانى خلالها الجيش الأوكراني من شحّ في الإمدادات بالذخائر والأسلحة المهمّة. وهذا ما مكّن روسيا من استغلال الموقف وشنّ هجوم بحلول ربيع 2024 للتقدّم في عدد من محاور الدونباس في الشمال والجنوب على حدّ سواء.

إقرأ أيضا : هل تدخل فرنسا الحرب الأوكرانية؟

وأتى الحدث غير المنتظر من خلال الاختراق الأوكراني للأراضي الروسية عند إقليم كورسك المحاذي للحدود. وقد توقف العديد من المراقبين عند هذا الاختراق العسكري، كونه حدثاً بدا للوهلة الأولى تكتيكياً، ثم تحول مع الأيام إلى حدث استراتيجي لا نعرف إن كان سينقلب إلى تحوّل استراتيجي في مسار الحرب. فمجرد دخول القوات الأوكرانية الأراضي الروسية، وليس قوات من المعارضة الروسية كما حصل قبلاً، يُعتبر خرقاً كبيراً في الحرب، فللمرّة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، تدخل قوات أجنبية الأراضي الروسية. ولإقليم كورسك رمزية كبيرة في الذاكرة التاريخية الروسية، باعتباره كان مسرحاً لأكبر معركة بالدبابات في الحرب العالمية الثانية والتاريخ بين القوات السوفياتية والألمانية النازية. ومعلوم أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحرص دائماً على استخدام رمزية “الحرب الوطنية العظمى” التي انتهت بهزيمة ألمانيا النازية، كجزء من التاريخ الروسي الواحد الممتد من الحقبة القيصرية إلى الحقبة السوفياتية وصولاً إلى الحقبة الحالية التي يقود فيها روسيا الاتحادية منذ ما يقرب من ربع قرن ولا يزال. ومع أن الكرملين حرص على ضبط التغطية الإعلامية والدعائية بخصوص الاختراق في إقليم كورسك، محاولاً التعتيم عليه بعض الشيء، إلّا أن استمراره أربعة أسابيع متتالية وتوسّعه ليصل مداه إلى 1300 كيلومتر مربع، وعدم قدرة القوات الروسية حتى الآن على حسم المعركة هناك والقضاء على القوات المتوغلة أو إخراجها، بدأ يثير تساؤلات أكثر حول نقاط الضعف البنيوية التي تعاني منها روسيا. فتجاهل الاختراق لم يعد ممكناً، واتهام الغرب بأنه يقف خلفه – وإن كان ذلك صحيحاً – لا يبرر أن تقف القوة العظمى الثانية عسكرياً حائرة أمام هذا الحدث الذي ما من شك في أنه مقلق جداً للقيادتين السياسية والعسكرية. ومع أن القلق بشأنه لم يتغلغل بعد في الأوساط الشعبية، لا سيما في المدن الكبرى، فإنه يلقي الضوء على مكامن القصور في الحرب الروسية ضدّ أوكرانيا. فالدعم الغربي منع انهيار كييف، ورسم معادلة توازن بين روسيا القوة العظمى وبين أوكرانيا بوابة أوروبا، يمكن أن يفتح مسارات ديبلوماسية لإنهاء حربٍ لا يمكن روسيا أن تنتصر فيها، وفي المقابل لا يمكن – وقد يكون بعيداً من حسابات الولايات المتحدة وحلف “الناتو” – أن تنهزم فيها أيضاً، فهزيمة روسيا التي تمتلك نحو 10 آلاف رأس نووي مصرّح عنها، أمر بالغ الخطورة على السلم العالمي.

من هنا، إذا قُيّض للقوات الأوكرانية أن تصمد أمام الهجوم الروسي المضاد الذي يتمّ التحضير له راهناً، فإن الضربات القاسية التي تنهال على المدن والبنى التحتية الأوكرانية، ومحاولات التقدّم الروسية في الخاصرات الرخوة من جبهة الدونباس، قد تفتح الباب أمام إمكانية فتح مسار ديبلوماسي يحتاجه الغرب كما تحتاجه روسيا.

طُويت صفحة “النزهة” العسكرية، وطُويت معها صفحة الضربة القاضية وسحق أوكرانيا. ومن ناحية أخرى، لا إمكانية لإلحاق هزيمة واضحة بروسيا في الحرب. يكفي أنها لم تحسمها. والسؤال: ماذا لو فاز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ هل يسارع إلى إنهاء الحرب؟ وماذا لو فازت كامالا هاريس؟ هل تواصل الإدارة الجديدة سياسة إدارة الرئيس جو بايدن لحرب طويلة تدوم أعواماً لاستنزاف روسيا وإنهاكها بهدف إخراجها من معادلة المواجهة الكبرى المقبلة مع الصين؟

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى