قَبِلَ الرئيس التونسي قيس سعيد التحدي من خلال الإعلان عن الانتخابات الرئاسية في موعدها، بعد أن صدرت اتهامات من بعض المعارضين تقول إن سيطرته على مؤسسات الدولة وعلى مركز القرار ستجعله يضع يده على السلطة ولن يسمح لأيّ كان أن ينافسه عليها.
صدرت إعلانات مختلفة تقول إن الانتخابات ستكون في موعدها، جاء ذلك في كلام الرئيس سعيد، وعلى لسان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، وفي كلمة وزير الخارجية نبيل عمار أمام مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان. بمعنى أنّ لا أحد يمكن أن يمنعها أو يتراجع عنها تحت أيّ مبرر.
هذا يقوّي من المنزلة الاعتبارية لقيس سعيد ويضغط على خصومه ويسحب منهم أحد أوراق الضغط الخارجية التي لجأوا إليها ليكسبوا تعاطف الخارج حكومات وبرلمانات ومنظمات حقوقية وإنسانية باتهامه بأنه احتكر السلطة وهمّش الأحزاب وبنى مؤسسات دستورية طوع يده.
الاتجاه إلى الخارج مفهوم لاعتقاد الكثير من المعارضين بأن الداخل ليس في صفهم، وأن الناس لن يتظاهروا لأجلهم، وهذا مفهوم بسبب فشل مرحلة الانتقال الديمقراطي والانطباعات السيئة التي تركتها لدى الناس وربطها بالفوضى والصراعات والبحث عن توطين الديمقراطية دون تفكير في مصالح الناس وإغفال الاهتمام بالجوانب الحيوية الاقتصادية والاجتماعية.
يعتقد قيس سعيد بأن الانتخابات محسومة شعبيا لفائدته، وهي تذّكر المعارضة بحجمها لدى الناس، ولذلك فهو يدفع نحو إجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها قبل نهاية العام الحالي.
صحيح أن موازين القوى في الشارع التونسي لصالح الرئيس سعيد وبفارق لا يرقى إليه شك، لكن إلى أيّ مدى سيكون الفارق، وهل ستصل نسبة المشاركة إلى ما فوق الخمسين في المئة مثل ما جرى في الدور الثاني من انتخابات 2019 حين كان الزخم السياسي في أعلى درجاته واصطفت الأحزاب والشخصيات المعروفة وراء قيس سعيد لقطع الطريق على نبيل القروي.
تقول المؤشرات الواقعية إن نسبة الإقبال على الانتخابات في الدور الأول ستكون محدودة ومتواضعة قياسا بالانتخابات البرلمانية والمحلية والمشاركة في الاستفتاء.
هناك انكماش واضح وفتور في الحماس لدى الناس بسبب صدمة الديمقراطية في العشرية الماضية، وخاصة إذا كانت الانتخابات معلومة النتائج بشكل مسبق. لكن الأهم في تفسير هذا الانكماش أن الانتقال الديمقراطي لم يحمل للناس مؤشرات على التغيير، ولم يحسّن معاشهم والخدمات التي يحصلون عليها، وهو الآن ما يزال محل اختبار وشك.
سيكون من المهم لقيس سعيد كما لمرشحي المعارضة أن يركزوا الحملة الانتخابية على المشاريع والمقاربات الاقتصادية، وأن ينسوا قصص الديمقراطية والنظام البرلماني أو الرئاسي والمحكمة الدستورية، فتلك مسائل تعني السياسيين، وهم يكيفون نتائج الانتخابات لتحقيق تلك الأهداف السياسية وغيرها.
لكن السؤال، أيّ معارضة ستشارك في الانتخابات، ومن سيسمح له قيس سعيد بالمشاركة ومن لا يسمح، فهل سيقدر الموجودون في السجن على المشاركة؟
ينظر قيس سعيد إلى الانتخابات على أنها تصويت من الشارع لشخصه، وأن الثقة العالية فيه في انتخابات 2019 تسمح له بأن يصنف المعارضين فيقبل منهم من لم تعلق به تهم الارتباط بالخارج، ويرفض من يعتقد أنهم مدعومون من تلك العاصمة أو تلك، كما جاء في كلامه الأخير في حضور وزير الداخلية وممثلي الأجهزة الأمنية.
وأكّد الرئيس التونسي على أنه “لا تسامح مع من يرتمي في أحضان الخارج استعدادا للانتخابات ويتمسّح كل يوم على أعتاب مقرات الدوائر الأجنبية. فمرة يقال فلان مرشح مدعوم من هذه العاصمة أو تلك، ومرة يشاع اسم شخص يتخفى وراءه آخر ويُقدّم على أنه مدعوم من الخارج من هذه العاصمة أو تلك..”؟
طالما أن الرئيس سعيد يعتقد أن الناس يقفون في صفه وسينتخبونه دعما لشخصه ونزاهته وانتصارا للنظام القاعدي الذي يطرحه أو نكاية في معارضيه، فإن المنطق يقول إن السماح لخصومه السياسيين بالمشاركة في الانتخابات وقيادة الحملات الانتخابية وفتح باب وسائل الإعلامية الحكومية أمامهم لن يضيره في شيء.
وعلى العكس فقيس سعيد بهذه الخطوة سيقوي موقعه ويبدد الكثير من الحملات ضده، وسيسمح للناس مجددا أن يقارنوا بين ما يطرحه من أفكار ذات عمق اجتماعي وبين حملات انتخابية ما تزال تردد مفردات الصراع مع الرئيس الراحل زين العابدين بن علي.
سيعرض الرئيس سعيد أفكارا وخططا تفصيلية لتحسين حياة الناس، ولْيدع معارضيه وخصومه يرددوا ما شاؤوا من شعارات وأفكار عن الحريات العامة والخاصة، فالناس سيختارون من يجلب الخبز لا من يجلب فائض الكلام حتى وإن بدا جذابا ومشروعا.
ما يهم الناس من السياسة هو ما ستجلبه لهم، وليس ما تحققه للسياسيين من مجد شخصي، أو ما تدخله من تحسينات على النظام السياسي سواء أكان معبّرا عن الشعب أم امتدادا للتمثيلية البرلمانية الكلاسيكية التي تدفع بالأثرياء ووجهاء العروش والعشائر إلى البرلمان والمجالس البلدية والجهوية.
رغم الظروف الصعبة التي مرت بها البلاد، وقصر المدة التي استلم فيها صلاحياته كاملة، فإن قيس سعيد حقق خطوات لافتة ستكون عنصر جذب ومفاضلة لدى الجمهور، منها أن الدولة كذلك حركت مشاريع كبرى كانت معطلة لأسباب صغيرة وعقبات بيروقراطية تحتاج إلى قدرة على اتخاذ القرار، من ذلك مشاريع الطرقات السريعة والقطارات الكهربائية في محيط العاصمة، أو قنطرة بنزرت وغيرها، أو العودة إلى الاهتمام بالبيئة.
وما يشفع لقيس سعيد أن التحرك الإيجابي للدولة هو وليد حماس شخصي، وبتوجيه منه عقب كل زيارة يقوم بها إلى أحد المرافق المعطلة والمهملة، فيما لا يمتلك رموز المعارضة سجلات يمكن أن ينافسوا بها بعد أن كشفت العشرية التي تلت ثورة 2011 أن البعد الاجتماعي كان مغيبا، وأن الاهتمام كان منصبّا على السياسة وتحصين مكاسب السياسيين.
ستكون فرصة لاختبار تفاعل الناس مع الحملات المستمرة على المحتكرين واللوبيات المتنفذة في الدولة العميقة، والحكم على فكرة الشركات الأهلية، وعلى التوجه لتعبئة الإمكانيات الذاتية بدلا من الذهاب إلى صندوق النقد. انفتاح وسائل الإعلام الحكومية على مختلف المرشحين ستتيح للناس أن يتكلموا بحرية وأن يقيّموا. وستعكس ذلك عمليات سبر الآراء، وقد تتيح الفرصة للتصويب والتعديل.
لأجل ذلك لن يجد قيس سعيد ما يزعجه في أن يشارك كل خصومه بقوتهم في الحملات الانتخابية ويفتحوا الباب للناس كي يقارنوا، لكن هذا الانفتاح تعيقه مشكلة السياسيين الموجودين في السجن ممّن لم تثبت عليهم تهم قضائية، وبعضهم موجود لأكثر من عام دون حكم عدا بحثي أولي. والمثير أن بعضهم محسوبون على قيس سعيد وكانوا في 2019 وما بعدها من ضمن “حزام الرئيس”.
ستخدم أي انفراجة سياسية قبل الانتخابات قيس سعيد أكثر من غيره، وخاصة صورته ومصداقية الانتخابات في الخارج، وهي صورة سيحتاج لها لتأمين الدعم الخارجي وتخفيف الضغوط والحملات الموجهة من بعض المنظمات.