انتخابات البرتغال و«موت» الحكومة الاشتراكية
لمَ لا تتعلم البرتغال من تجربة البرازيل، التي كانت من البلدان التي استعمرتها في أنحاء العالم؟ ومعروف أن البرتغال قوة إمبريالية رائدة أخذت تخضع دولاً أخرى منذ القرن الخامس عشر واستعبدت نحو 6 ملايين أفريقي.
في الساعات الأولى التي تلت إغلاق مراكز الاقتراع أبوابها في البرتغال، تعددت الإحصاءات ونسب الفوز والخسارة. وإذ لم تعلن النتائج النهائية حتى كتابة هذه السطور صباح اليوم التالي، فالمؤشرات كلها تؤكد نتيجة واحدة: “موت” الحكومة الاشتراكية، واقتراب اليمين المتطرف من عتبة السلطة.
ومن المرجح أن “التحالف الديموقراطي” بقيادة الحزب الديموقراطي الاشتراكي (يمين الوسط) سيفوز بالانتخابات بفارق ضئيل بـ97 مقعداً من مقاعد البرلمان (230)، فيما سيحتل الحزب الاشتراكي 77 مقعداً. قد لا يرضى كل منهما بنصيبه هذا. ولعل حجم الخيبة في صفوف المحافظين أكبر منه لدى الاشتراكيين. فبعد تسع سنوات من بقائهم خارج الحكم الذي قاده الاشتراكي أنطونيو كوستا رئيس الوزراء المنتهية ولايته، لم يستطيعوا أن يحصلوا على أصوات كافية لتشكيل حكومة جديدة بمفردهم. هكذا يتضح الفارق الكبير بين لويس مونتنيغرو، الزعيم الديموقراطي الاشتراكي، وكوستا الذي فاز في انتخابات 2022 بأغلبية مريحة على الرغم من أداء حكومته المتراجع ومن الفساد المستشري الذي أجبره في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على الاستقالة.
إلا أن الفائز الحقيقي هو حزب “شيغا” (بالعربية يكفي) الذي ضاعف أصواته ثلاث مرات تقريباً. ويُنتظر أن يكون “بيضة القبان” للحكومة التالية، كما يفعل حزب “الديموقراطيين السويديين” الذي يشاطره الأيديولوجية نفسها، مثلاً. لكن دخوله السلطة ضمن تحالف يميني واسع ليس مضموناً، فمونتنيغرو، أعلن في مناسبات عديدة أنه لن يضع يده في يد الحزب المتطرف، معتبراً أن زعيمه آندريه فينتورا “معادٍ للأجانب وعنصري وشعبوي وديماغوجي مفرط”.
إن استبعاد حزب يعتقد أنه سيحتل نحو 45 مقعداً برلمانياً (من أصل 230 مقعداً)، وهذه زيادة معتبره على حصته السابقة (12 مقعداً)، لن يكون سهلاً. وإذا كان مونتنيغرو هو المرشح الأوفر حظاً بتشكيل الحكومة، كما يقال، فقد يتعرض إلى ضغوط من داخل الحزب للتحالف مع “شيغا” لتأمين الأغلبية البرلمانية. غير أنه إذا رضخ لضغوط من هذا النوع فسيضع مصير إداراته في يد شريكه المتشدد الذي سيتمكن من أن يسحب البساط من تحتها ساعة يشاء. والأخطر أن التحالف المفترض سيفتح باب السلطة من جديد أمام اليمين “الفاشي” للمرة الأولى منذ نهاية عهد الديكتاتور أنطونيو سالازار في 1968 بعد 35 عاماً في الحكم، على يد ثورة القرنفل التي تحتفل البلاد بذكراها في نيسان (أبريل) المقبل.
وهناك احتمال حقيقي من تمدد “شيغا” على نطاق أوسع بعد مشاركته في السلطة. وإذا عضّ مونتينغرو وبيدرو نونو سانتوس، الزعيم الاشتراكي، على الجرح واتفقا على تعاون جزئي في البرلمان وقت الحاجة على الأقل، فسيكون بمقدورهما أن يجنّبا البلاد خطر اليمين المتطرف الداهم.
بيد أن الرفاق الذين يقفون مع فينتورا في خندق واحد، أسقطوا خيار إبقائه خارج الحكم من حسابهم سلفاً، كما يبدو. فقد أخذت رسائل التهنئة تتدفق عليه في وقت مبكر من قادة اليمين المتشددين في أوروبا التي لم تكد تصدق أنه نجا من مصير سانتياغو أباسكال، زعيم حزب “فوكس” الإسباني الذي خسر عدداً من مقاعده في انتخابات العام الماضي خلافاً لتوقعات استطلاعات الرأي. لا شك بأن هذا الإنجاز الانتخابي لليمين المتطرف في البرتغال سينعكس إيجاباً على الأحزاب المتطرفة الشعبوية، ويساهم في تنامي نفوذها المطرد.
تعيش هذه العناصر الناشزة على فشل الأنظمة الديموقراطية الليبرالية، بألوانها المختلفة في الغرب، حيث المشهد السياسي متشابه. وتجمعها مشتركات كثيرة، فالأعداء الذين يصلحون مشجباً تعلق عليه المشكلات كلها جاهزون دائماً، بدءاً بالإسلام ومروراً بالمهاجرين والمثليين، وانتهاءً بالاتحاد الأوروبي والإجهاض والتهاون في التعامل مع الجريمة… من هنا، تتناظر الشعارات والأهداف، وتتشابه طرق العمل ويتسع نطاق التعاون والدعم. ومن الواضح أن “وحدة الساحات” هذه لم تساعد حزب “القانون والعدالة” البولندي بالأمس، كما لن تعين “شيغا” اليوم، على النجاح.
فهو، كغيره من الأحزاب الشعبوية المتطرفة، يبرع في التهجم على الحكومة وكيل التهم لها، بحق ومن دونه، لكنه يخفق في العثور على حلول للأزمات التي تواجهها بلاده. وفي البرتغال، حيث الشعب يئن من بؤس الخدمات الصحية والعامة، وغياب المسكن اللائق، وارتفاع تكلفة المعيشة، لن تكفي فينتورا سلبيته وحرصه على إحداث الضجيج ورفع مستوى الخوف بين المواطنين لكي ينجح.
يصبح الاستياء من النظام وغياب الأمل في قدرته على انتشال البلاد من محنتها، أكثر حدة إذا كان الحزب نفسه ممسكاً بمقاليد الحكم خلال فترة طويلة تفاقمت فيها الصعوبات. وهذه هي الحال في البرتغال التي حكمها الحزب الاشتراكي منذ 2015 بزعامة السياسي المخضرم ذاته كوستا. وكان لهذا المناخ المريض العاجز عن التعامل مع سيل الأزمات، نتائجه الجانبية، وأهمها تنامي اليمين المتطرف. وهذا لون سياسي مألوف في أوروبا عموماً، إلا أنه كان غريباً على إسبانيا والبرتغال حتى وقت قريب، فهما بقيتا في منأى عن العنصرية والتشدد منذ تخلصتا من ديكتاتورية الجنرال فرانثيسكو فرانكو (1975) في مدريد وسالازار في لشبونة، حيث حُكمت كلٌ منهما بالحديد والنار لعقود عدة.
واتخذ فينتورا من استهداف النظام العقيم الذي يقوم على تداول السلطة بين اثنين من أحزاب الليبرالية الديموقراطية المتشابهين على أكثر من صعيد، محور استراتيجيته المتطرفة. ووجد “شيغا” الذي يعتبر أصغر أحزاب أقصى اليمين في أوروبا، إذ تأسس في عام 2019، أي بعد 5 سنوات من ولادة “فوكس” الإسباني، آذاناً صاغية بين البرتغاليين. وعزّز صعوده من خلال الجمع في شعاراته بين مكافحة الفساد والدعوة إلى تغيير النظام والحرب على الجريمة. وبذلك كان فينتورا يسير على خطى أستاذ آخر في الشعبوية هو الرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو.
ولمَ لا تتعلم البرتغال من تجربة البرازيل، التي كانت من البلدان التي استعمرتها في أنحاء العالم؟ ومعروف أن البرتغال قوة إمبريالية رائدة أخذت تخضع دولاً أخرى منذ القرن الخامس عشر واستعبدت نحو 6 ملايين أفريقي. ولو تأمل البرتغاليون الآن بهدوء وموضوعية تجربة بولسونارو الفاشلة اقتصادياً وسياسياً، لفضلوا عدم إيقاظ سالازار من قبره. ولكانوا سيحرصون على المضي على طريق ثورة القرنفل السلمية التي حررت موزامبيق وأنغولا ومستعمرات سابقة أخرى احتفظ بها الديكتاتور الراحل لأنها دغدغت مشاعره القومية، كما لا تزال تفعل اليوم مع فينتورا وأصحابه ممن يتباهون بماضي بلادهم الإمبريالي. فالسلام بين مجتمعات البلاد وبينها وبين العالم، هو مفتاح النجاح في مقارعة مشكلاتها الكثيرة.