اليمين الأوروبي … خطوة إلى الأمام خطوتان إلى الوراء!
تحطم حلم المتطرفين الفرنسيين بالقبض على السلطة بعدما كادوا يحققونه. دغدغ الناخبون مشاعرهم في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة ثم خذلوهم في الثانية
“الأشياء تتداعى؛ المركز لا يستطيع أن يصمد”، كما قال الشاعر الإيرلندي الكبير وليام بتلر ييتس في بيت شهير تذكرته وسائل الإعلام الغربية مع تزايد الحديث عن اجتياح اليمين المتطرف البرلمان الأوروبي في الأشهر التي سبقت انتخاباته وبعدها مباشرة. لكن ذهب العاشر من حزيران (يونيو) وذهبت معه الانتصارات اللافتة التي سجلها أصحاب هذا اللون السياسي. وأثبت “المركز” الممثل بأحزاب “وسطية” أنه لا يزال قادراً على الصمود وفرض كلمته. ونجح في التمديد لأورسولا فون دير لاين خمس سنوات أخرى على رأس المفوضية الأوروبية الخميس الماضي عنوة عن خصومها المتطرفين. ولعل ذلك يؤكد أن الوقت لم يحنْ بعد لـ”رفع الراية البيضاء” أمامهم في أوروبا.
وكانت المحكمة قد دانتها بعدم التزام الشفافية بشأن صفقة لقاحات كوفيد المثيرة للجدل. ومع ذلك، صوّت النواب الأوروبيون لمصلحة التمديد لها. لم يكن غريباً أن فيكتور أوربان ومارين لو بن و”البديل” الألماني.. حاولوا حرمانها من البقاء في منصبها. لكن المفاجئ أن جورجيا ميلوني، رئيسة الوزراء الإيطالية، صوّتت ضد المسؤولة التي سال حبر كثير في توصيف شراكتها المفترضة معها وكم ستساعدها على التأثير في عمل الاتحاد!
والواضح أنهما صارا على عتبة صراع مكشوف. فقد انتقلت ميلوني هذه المرة إلى الهجوم خلافاً للجولة الأولى من لعبة المواجهة بينهما، حينما اختار المجلس الأوروبي كبار مسؤولي الاتحاد في 27 حزيران (يونيو). صوّتت في تلك المناسبة ضد اختيار كايا كالاس لمنصب المسؤول الأعلى للخارجية والأمن وأنطونيو كوستا لرئاسة المجلس الأوروبي، واكتفت بالامتناع عن التصويت لفون دير لاين أو ضدها. وتكشّف عندئذ أول فصول خلافاتهما التي عُزيت إلى رضوخ رئيسة المفوضية لضغوط مارسها عليها قادة “التحالف الوسطي” المؤلف من كتل “حزب الشعب الأوروبي” (أحزاب يمين الوسط المحافظة) و”الاشتراكيون والتقدميون” و”التجديد” الليبرالية، للنأي بنفسها عن اليمين المتطرف.
صوّت أوربان يومها ضد فون دير لاين. لكن لم تؤثر معارضته هو أو ميلوني على نجاح المرشحين الثلاثة. وتلى ذلك النصر الكثير من الضجيج والشكوى من الزعيمين اليمنيين اللذين اعتبرا أن أعضاء التحالف قرروا تقاسم الأدوار بمعزل عنهما، في انتهاك صريح للقواعد الديموقراطية.
وتكررت الاتهامات والشكوى عندما نجح التحالف نفسه من جديد في 16 تموز (يوليو)، في حرمان مرشحي اثنتين من كتل اليمين المتطرف من احتلال منصب أحد نواب رئيسة البرلمان الـ14. لكنه سُمح لاثنين من مرشحي الزعيمة الإيطالية بالفوز، لأنها تقف ضد الحرب الروسية على أوكرانيا.
والآن، ما بعد فوز فون دير لاين ليس كما قبله. وبوقوف ميلوني ضد التمديد، عادت إلى خانة التطرف مع الرفاق الذين اختلفت معهم سابقاً بشأن “حليفتها” المزعومة. ادعت المرونة في تعاملها مع الاتحاد الأوروبي بعدما كانت قد هاجمته بشراسة لكنها لم تستطع الاستمرار لأن “النمر لا يمكنه أن يغير البقع التي ترتسم على جلده”. وربما خلصت إلى أن التظاهر بالليونة ومعارضة موسكو، أو زيادة عدد نواب اليمين المتطرف إلى 187 نائباً (من أصل 720)، لا تكفي للتحكم بالقرار الأوروبي الذي لا يُبتُ أصلاً تحت قبة البرلمان.
وعودتها لا تعني أن فصائل اليمين باتت تشكل جسماً واحداً. أوكرانيا تقف للآن عائقاً دون ذلك. وحتى إن غيرت ميلوني رأيها، و”اقتنعت” بسلامة موقف شريكها في الحكومة ماتيو سالفيني، زعيم حزب “ليغا” المؤيد لموسكو، فإن حلفاءها في حزب “القانون والعدالة” البولندي لن يحذوا حذوها على الأغلب، ما يعني أن فجوة أوكرانيا، ستظل تباعد بين مجموعات اليمين الأوروبي المتطرف.
والواقع أن الفُرقة تعززت في أوساط هذه الفئات بعد الانتخابات. تردد أن انفصال الحزب البولندي المذكور عن كتلة ميلوني “المحافظون والإصلاحيون الأوروبيون” أصبح محتملاً. وضمّ أوربان جهوده إلى لو بن ليشكلا كتلة “وطنيون من أجل أوروبا” الجديدة، كما نجح “البديل” الألماني، في تأليف كتلة ثالثة هي “الأمم الأوروبية ذات السيادة” بعدما طُرد من كتلته السابقة إلى جانب لو بن.
وكانت هناك الكثير من الانتكاسات خارج البرلمان. استطاع الزعيم الهولندي خيرت فليدرز أن يشكل حكومة، مع أحزاب أقل منه مغالاة في التطرف، يعتقد أن حياتها لن تطول كثيراً. في المقابل، انتهى حكم “القانون والعدالة” في بولندا. ويواجه أوربان تهديداً كبيراً للسلطة التي انفرد بها لسنوات، إذ لم يستطع حزبه “فيديز” الفوز في الانتخابات البلدية الأخيرة في العاصمة بودابست. وانتزع منه في حزيران حزب “الاحترام والحرية” بزعامة “تلميذه” السابق بيتر ماغيار 30 في المئة من الأصوات في انتخابات البرلمان الأوروبي.
لعل الأهم من هذا وذاك، هو تحطم حلم المتطرفين الفرنسيين بالقبض على السلطة بعدما كادوا يحققونه. دغدغ الناخبون مشاعرهم في الجولة الأولى من الانتخابات التشريعية المبكرة ثم خذلوهم في الثانية. وهذه هي المرة الرابعة التي تصل اللقمة إلى فمهم في السنوات الماضية، ثم تتركهم يعانون جوعاً مزمناً وتمضي.
لا يعني هذا أن اليمين المتطرف ضعيف، بل القوة التي اكتسبها والمهارات التي طورها لا تكفي لتحقيق اختراق في فرنسا ودول أخرى وفي بروكسل. والمنطق يقتضي الاعتراف بأن فئاته تتقدم تدريجياً صوب هدفها هذا. من جهة ثانية، يكون معارضوه أحياناً، على مستوى التحدي، إلى حين ثم ينشغلون بحروبهم الداخلية من جديد. لذا ربما يطول التأرجح.
قد يتابع المتطرفون تقدمهم خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء حتى يصلوا في نهاية المطاف. وإذا فاز الرئيس السابق دونالد ترامب بالبيت الأبيض، فسيحفزهم ذلك على المضي بخطوات أسرع للفتك بالاتحاد الأوروبي وسياساته الخضراء التي يستهدفونها رغم هشاشتها، وبتعاطيه مع الهجرة وسيادة القانون!