اليمن

اليمن ونموذج المصالحة: في واقعية بعث العظام وهي رميم

يؤسس الحوثيون لمشروع أيديولوجي كهنوتي، ويستفيدون من موارد القضايا القومية، كالقضية الفلسطينية والقضايا الدينية، لمواجهة ما يسمونه تيارات الانحلال والإفساد في العالم الإسلامي، من أجل إقناع أنصارهم وحشو أدمغتهم بأفكار طافحة.

تحدثت مصادر إعلامية عن مقترح تقدمت به المملكة العربية السعودية إلى الإدارة الأميركية ويدور حول خطة لاستيعاب الحوثيين بالطريقة ذاتها التي تم بها لَمّ شمل الجمهوريين والملكيين في ستينات القرن الماضي وسبعيناته. خروج المقترح في هذا التوقيت يُشير إلى عدّة أمور: رؤية السعودية للحل الشامل في اليمن، موقع الحوثيين في معادلة الحل، محاولة السعودية الاستمرار في الإمساك بكل تفاصيل الملف اليمني في حقبة الإدارة الأميركية الجديدة وكما حدث في عهد جو بايدن.

وبعيدا عن حيثيات توقيت ظهور المقترح، يظل السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل يمكن تكرار سيناريو المصالحة القديم اعتمادا على الخبرة السعودية ودون دراسة معمقة للنتائج التي آل إليها السيناريو القديم، والشروط والظروف المحلية والإقليمية والدولية في الحالتين؟

تقوم فكرة اقتباس نموذج المصالحة القديم على استنتاج أحادي الجانب يُقارن بين حروب الجمهوريين والملكيين التي استمرت عدّة سنوات ودون تحقيق نتائج حاسمة، وانتهاز فرصة انسحاب النظام المصري من الملف اليمني وهو الداعم الأكبر للجمهوريين بعد الضربة التي تعرض لها في عام 1976، وبين وضع الملف اليمني الحالي الراكد (عن قصدٍ) على كل المستويات واهتزاز أركان النظام الإيراني الداعم الأكبر للحوثيين بعد الضربات الموجعة التي تلقاها خلال الأشهر الماضية.

تمخضت المصالحة بين الجمهوريين والملكيين عن صفقة تم فيها استبعاد أقطاب الطرفين وإدماج الكتل السياسية والاجتماعية في النظام السياسي، وبدرجات متفاوتة. وفي ذروة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي دعمت الولايات المتحدة إمساك السعودية بكل خيوط ملف اليمن الشمالي. تكفّلت الأخيرة بتحمّل الميزانية كاملة، كما دعمت طبقة واسعة من القوى النافذة، القبلية والعسكرية، التي فرضت هيمنة مطلقة على المجال العام، وشكّلت سياجا محكما حول “الحديقة الخلفية”، إلى درجة أنه بمجرد أن تسحب الثقة من أي رئيس أو حكومة يزولان في لمح البصر.

وفي ظل هذه الشروط واجهت جهود بناء الدولة تحديات مهولة، وتحدث الرئيس إبراهيم الحمدي (1974 – 1977) عن هذه المعاناة في مقابلة مع صحيفة عربية (بإمكان قبيلة واحدة أن تحشد عددا وعتادا أكبر وأقوى من الجيش النظامي)، وحتى الجيش نفسه كان قوام غالبيته العظمى من أبناء القبائل. وعندما تمكّن نظام الرئيس علي عبدالله صالح من إقامة علاقات مباشرة مع الولايات المتحدة في نهاية التسعينات، وحصل على دعم كبير تحت يافطات مكافحة الإرهاب وتعزيز النهج الديمقراطي وغير ذلك، فأراد أن يُركِّز السلطة في يده، دخل في صراع شرس مع هذه القوى أدى في نهاية المطاف إلى انهيار الدولة وصعود الحوثيين، وهو ما كنّا قد تطرقنا إليه في مقالٍ سابق (اليمن والحاجة إلى بنية سلطة متماسكة).

من جوانب كثيرة، تبدو الكثير من الشروط والظروف الحالية مختلفة تماما. فباستثناء إسرائيل وأمنها، تراجعت أهمية الشرق الأوسط في قائمة أولويات السياسة الأميركية، ووصول ترامب إلى البيت الأبيض بهذا الاكتساح هو إعلان عن طي صفحة نهج السياسة الخارجية الذي سارت عليه الإدارات الأميركية السابقة بشقيها الجمهوري والديمقراطي، فضلا عن الانزياحات الكبيرة التي تحدث في النظام الدولي والإقليمي، وتشابك قضاياه وأزماته. فهل تستطيع السعودية وحدها، وبالأدوات نفسها والآليات التقليدية السابقة، أن تتعامل مع إخفاقات فادحة ومتراكمة لستة عقود متواصلة، وفي كل عقد تكون النتائج كارثية وأسوأ من ذي قبل؟

محليا تدور النقاشات حول إمكانية أو بالأصح واقعية الرهانات المعقودة على انتهاز اللحظة وإقناع الحوثيين بخفض سقف تطلعاتهم، وتحفيزهم على الدخول في تشكيل نظام سياسيٍّ جامع مقابل حصولهم على مساعدات مالية. هذه الفكرة بقدر ما تطرح مسارا للحل فإنها تُثير في الوقت نفسه الكثير من التساؤلات العاتية؛ فهي أقرب إلى نموذج الأفكار الناتجة عمّا يسميه اليمنيون “قرحة القات”، أي الأفكار الشاطحة التي تطرأ فجأة ودون تمعن في مدى واقعيتها ومعقوليتها، ومن غير المعقول أن يتحول البلد إلى حقل تجارب مفتوح ومجاني لأفكار “قرحة القات”!

اقرأ أيضا| عودة ترامب: تأثيرات سياسية وتحديات أمنية تجاه الحوثيين

يُحاول الحوثيون تطبيق نموذج نظام الملالي، وفي تاريخ الإمامة الذي امتد أكثر من ألف عام نادرا ما تخلت الزيدية عن فكرة الإمام (من نسل الحسن والحسين)، والتخلي عن هذا المشروع يعني الانهيار الكلي للفكرة الحوثية. الحوثية حركة فتية، وهذا هو أحد جوانب الاختلاف الكبيرة عن نظام الإمامة السابق الذي ساعدت ظروف دولية -كان الصوت الأعلى فيها لمشاريع التحرر الوطنية والأفكار القومية والاشتراكية- على هزّ صورته ومكانته كنظام تقليدي شديد التخلف، وعززت فيما بعد جهود التحديث ودفع الناس إلى الانخراط في التعليم العصري على الرغم من التحديات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

يؤسس الحوثيون لمشروع أيديولوجي كهنوتي، ويستفيدون من موارد القضايا القومية، كالقضية الفلسطينية والقضايا الدينية، لمواجهة ما يسمونه تيارات الانحلال والإفساد في العالم الإسلامي، من أجل إقناع أنصارهم وحشو أدمغتهم بأفكار طافحة بالنظرة السلبية والعداء لكل مشاريع التحديث والانفتاح (أحد الجوانب التي ساعدت على اختراق السعودية للقوى القبلية في اليمن الشمالي في الماضي هو الطبيعة التقليدية المتقاربة، واليوم اختلف الأمر كليّا).

ينظر الحوثيون إلى مستقبلهم بطريقة مغايرة تماما لما يأمله البعض، يعتقدون أنهم يقودون تيار مقاومة شرسا ومقدّسا -مع الدعم الإيراني أو من دونه- مع إيران فاعلة أو خامدة، متسلحين بفكرة “اليمن أصل العرب”، لحشد أنصارهم في كل مكان للدفاع عن حِمى العالم الإسلامي الذي يتعرض لموجات تجريف عاتية وفق وجهة نظرهم. تطرح تجارب كوريا الشمالية وطالبان وكوبا، وكذلك الأهمية البالغة لموقع اليمن، خيارات عديدة أمامهم للتعامل مع أي تحدّ اقتصادي أو سياسي مستقبلي في حال الاضطرار إلى تَحمل تبعات تنتج عن رفضهم أي مبادرة مقترحة، وتمسكهم الشديد بترسيخ مداميك مشروعهم الأيديولوجي العابر للحدود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى