يشهد العالم اتجاهاً مقلقاً على الصعيد السياسي، وهو الصدع المتزايد في المحيط الأطلسي. ولا أقصد هنا الصدع الجيولوجي تحت الماء الذي يتسع بمقدار بوصة سنوياً، بل الصدع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة وأوروبا. وبصفتي شخصاً يحمل الجنسية المزدوجة لكل من الولايات المتحدة وألمانيا، لطالما اعتبرت الروابط الأطلسية ثابتة وغير قابلة للتغيير. لكن يبدو الآن أن هذه الروابط على وشك أن تضعف، وربما تنكسر تماماً.
الخلاف حول الإنفاق الدفاعي
لفترة طويلة، كانت العلاقات بين هاتين القوتين الجغرافيتين تتجه في مسارات متباينة. فقد تجنبت العديد من الدول الأوروبية الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) الإنفاق الدفاعي المطلوب لعقود، معتمدة على القوة العسكرية الأميركية بدون مقابل، مما أثار استياء دافعي الضرائب وصناع القرار في الولايات المتحدة في البداية، ثم تحول ذلك إلى غضب متزايد. ورغم أن بعض هذه الدول بدأت الآن في زيادة إنفاقها العسكري، فإن هذا التحرك قد يكون أقل مما ينبغي وجاء متأخراً.
التحول الأميركي نحو آسيا
في الوقت نفسه، كانت واشنطن تبتعد تدريجياً عن سياستها الأطلسية التي كانت تعتبر استراتيجية وغريزية خلال الحرب الباردة. منذ عهد الرئيس باراك أوباما، حاول الرؤساء الأميركيون “التحول” من التركيز على أوروبا والشرق الأوسط نحو منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث يرون تصدعات أكثر خطورة ويشعرون بتأثيرات متزايدة من التحركات الصينية.
لقد انتهت فترة الهيمنة الأحادية القطبية القصيرة التي سمحت لأميركا بأن تتصرف كقوة عظمى قادرة على التحكم في جميع مناطق العالم. في ظل الأزمات المالية المستمرة (مع بروز أزمة جديدة في الأفق) والديون المتزايدة بوتيرة سريعة، ستواجه واشنطن ضرورة اتخاذ قرارات حاسمة.
ترمب وهاريس والخيارات الاستراتيجية
ستعتمد هذه القرارات على هوية الرئيس المقبل. ففي ولايته الأولى، هدد دونالد ترامب، الذي يميل إلى تجاهل حلفاء أميركا والتودد إلى خصومها، بسحب القوات الأميركية من ألمانيا وحتى بالانسحاب من حلف شمال الأطلسي بشكل كامل. وإذا فاز ترامب بولاية ثانية، قد ينفذ هذه التهديدات فعلاً، أو ببساطة، كما يقترح أحد مراكز الأبحاث المقربة منه، قد يعلن أن الحلف “في حالة سبات”.
على النقيض من ذلك، ستعيد كامالا هاريس التأكيد على التزامات أميركا التقليدية، كما فعل رئيسها المنتهية ولايته. ولكن على عكس جو بايدن، فهي تنتمي إلى جيل يشعر بالرابطة عبر الأطلسي في عقله أكثر من قلبه. وعلاوةً على ذلك، يحيط بهاريس مستشارون ومراكز أبحاث -“كتلة” واشنطن سيئة السمعة- الذين نأوا بأنفسهم عن مبدأ الهيمنة الدولية بعد الحرب. الخيار اليوم هو بين عزلة موسعة على غرار “اجعل أميركا عظيمةً مجدداً” أو انسحاب أكثر دقة يُعرف بـ”الاستبعاد”.
للتمعن في هذه الخيارات، أجريت مقابلة مع إيما أشفورد، وهي خبيرة استراتيجية تعمل مع فريق يُعرف بـ”محاربي التفكير المغاير” في مركز “ستيمسون” بواشنطن. كانت أشفورد تدرس السيناريوهات المحتملة لتقشف أميركي وتأثيرها على أوروبا، وقد وصفت بعضها بالمقلق والبعض الآخر بالمرعب.
تستند هذه السيناريوهات إلى معيارين أساسيين: الأول هو ما إذا كان التقشف الأميركي مفاجئاً وسريعاً أم تدريجياً وبطيئاً. والثاني يتعلق بكونه متعمداً واختيارياً أو نتيجةً لظروف قهرية تفرضها حالة طارئة. والتهديد الرئيسي لأوروبا في كل الأحوال يبقى نفسه: روسيا العدوانية ذات الطموحات التوسعية.
تأثير الانسحاب السريع على أوروبا
في حالة ترمب، سيكون الانسحاب الأميركي من أوروبا سريعاً ومتعمداً. أما هاريس، فمن المحتمل أن تؤكد على الالتزام بأوروبا على المستوى الخطابي، لكنها قد تجد نفسها مضطرة للانسحاب تحت ضغوط غير متوقعة إذا واجهت أزمات طارئة.
قد يحدث الانسحاب الأميركي بسرعة في حالة اندلاع حرب كبرى في آسيا، مثل غزو الصين لتايوان، مما سيجبر الولايات المتحدة على تحويل جنودها ومواردها العسكرية بشكل عاجل إلى المحيط الهادئ. في هذه الحالة، سيتم نقل القوات والأسلحة والذخائر والسفن والطائرات بين ليلة وضحاها. أما في السيناريو البطيء، فقد تواجه الولايات المتحدة أزمة مالية تدفعها إلى تقليص وجودها العسكري في الخارج بشكل تدريجي، مع تركيزها على آسيا كأولوية، ما يعني أن التخفيضات ستصيب أوروبا وتؤدي إلى “تفريغ” حلف شمال الأطلسي بمرور الوقت.
التحالفات الثنائية والدور الروسي
بالنسبة لأوروبا، سيكون الانسحاب السريع والمتعمد من قبل ترمب كارثياً. لكن ماذا عن روسيا؟ نظرًا لأن التفاصيل ستكون خاضعة لقرارات الرئيس الأميركي، فإن الدول الأكثر تعرضاً للخطر، مثل بولندا ودول البلطيق التي تشعر بتهديد مباشر من روسيا وتستثمر بكثافة في جيوشها، ستحاول التفاوض مع ترمب لضمان اتفاقيات أمنية ثنائية. يمكن تصور أن تقدم بولندا عروضاً لدفع تكاليف إقامة “حصن ترمب” على أراضيها، في محاولة لإبقاء الحماية الأميركية.
هذه المساومات الفردية بين بعض الدول دون غيرها ستؤدي إلى تدهور ما تبقى من تماسك حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، وستتفكك هذه المنظمات القارية إلى تحالفات صغيرة وجيوش متوسطة الحجم تفتقر إلى التنسيق فيما بينها. في ذلك الوقت، ستحين لحظة الاحتفال في الكرملين ابتهاجاً بتفكك القوى الغربية.
لن يكون التآكل التدريجي للتحالف عبر الأطلسي، الناجم عن أزمة مالية أميركية أو ما شابه، أمراً سهلاً على أوروبا أيضاً. سيستمر الأوروبيون في الحديث (كما فعلوا منذ خمسينيات القرن الماضي) عن تشكيل “جيش أوروبي”، وسيعقدون المزيد من القمم لمناقشة “سياسة الأمن والدفاع المشتركة”، التي توجد بالفعل كإطار نظري على الورق. ولكن لن يتحقق شيء ملموس، لأن الأزمة بطيئة جداً، وكل دولة تواجه تهديدات مختلفة. فالبرتغال، الواقعة في الجنوب الغربي، لا تشعر بتهديد كبير من الكرملين، بينما لا ترى إستونيا في الشمال الشرقي تهديداً أكبر من روسيا.
الدول الكبرى، مثل ألمانيا، لن تكون مستعدة للتضحية بنظام الرعاية الاجتماعية المتضخم لصالح زيادة الإنفاق العسكري. أما الفرنسيون (والبريطانيون خارج الاتحاد الأوروبي) فسيتحدثون بلهجة صارمة، لكنهم لن يمدوا قدراتهم النووية الصغيرة لتشمل بقية الحلفاء الأوروبيين. الكرملين سيتابع هذا التردد الأوروبي بمتعة، تماماً كما شاهد نابليون في الماضي انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة قبل أن يحلها.
هل ستوحد الأزمات أوروبا؟
أما إذا وقع نزاع غير متعمد ولكنه شديد، مثل حرب بين الولايات المتحدة والصين في آسيا، فسيكون الوضع مختلفاً تماماً. هذا التصعيد سيكون كارثياً على العالم بأسره، خاصة مع تصرف الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران وكأنها “محور” واحد، وقد تنسق أعمالها العدائية معاً. ومع ذلك، في مثل هذه الحالة، ستكون المفاوضات مع الرئيس الأميركي بلا جدوى، وسيدرك الأوروبيون سريعاً أنهم إما أن يقفوا متضامنين أو يغرقوا فرادى.
قد يصبح التحول القسري والمفاجئ لأميركا نحو آسيا بمثابة “نقطة تحول” لأوروبا، وإن كانت متأخرة. مع توجه الولايات المتحدة نحو المحيط الهادئ، سيضطر الأوروبيون إلى أخذ زمام المبادرة في بروكسل، سواء في إطار الاتحاد الأوروبي أو في مقر حلف الناتو. حينها، قد يتقاسمون المعلومات الاستخباراتية وأنظمة الأسلحة وحتى القيادة والسيطرة بشكل أكثر تنسيقاً، بهدف الدفاع عن قارتهم المشتركة. أوروبا حينها قد “تتشكل وتتحد نتيجة الأزمات”، كما يقول المثل الشائع.
كل هذا يثير تساؤلاً حول سبب عدم اتخاذ الأوروبيين خطوات جدية في وقت مبكر لتجنب السيناريو الكارثي، والاستعداد لمواجهة التحديات قبل فوات الأوان. وإذا كان لديك إجابة واضحة، فربما تستحق جائزة شارلمان. على الأقل، يجب أن يدرك الأوروبيون أخيراً ما قصده الأميركيون من الجانب الآخر من الأطلسي: المسألة ليست ما إذا كان الانفصال سيحدث، بل متى وكيف.
بالمختصر
يناقش المقال التباعد المتزايد بين الولايات المتحدة وأوروبا على المستوى الجيوسياسي، حيث يتنبأ بانسحاب أميركي تدريجي أو مفاجئ من أوروبا، خاصة في ظل تحول الأولويات الأميركية نحو آسيا لمواجهة الصين. يشير المقال إلى أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة على تحمل أعباء الدفاع عن أوروبا، في حين أن العديد من الدول الأوروبية لم تلتزم بزيادة إنفاقها الدفاعي بما يكفي.
إذا استمر هذا التوجه، فقد ينفذ الرئيس الأميركي المستقبلي، سواء كان دونالد ترمب أو كامالا هاريس، انسحاباً من حلف الناتو أو تقليص الدعم العسكري، ما سيترك أوروبا مكشوفة أمام التهديد الروسي. مثل هذا الانسحاب قد يؤدي إلى تفكك التحالفات الأوروبية التقليدية ويشجع الدول الأوروبية على محاولة تأمين نفسها عبر اتفاقيات ثنائية مع الولايات المتحدة.
في المقابل، قد تكون هناك فرصة لأوروبا لتوحيد جهودها وبناء قدراتها الدفاعية الذاتية، لكن المقال يشير إلى أن التحرك نحو ذلك سيأتي فقط بعد حدوث أزمة كبيرة تدفع الأوروبيين للعمل بشكل جماعي.