تبدو منظمة التحرير الفلسطينية كمن خرج من صورة العائلة، لو استثنينا “بيانات” رئيس المجلس الوطني، شبه المعين، أو بصيغة أكثر نزاهة، المعين “حسب الأصول”، بين وقت وآخر. يمكن أيضاً ملاحظة ظهور أعضاء من “اللجنة التنفيذية” على شاشة الفضائية الفلسطينية الناطقة، دون مواربة، باسم رئاسة السلطة الفلسطينية، كمحللين وخبراء وعارفين ببواطن الأمور، وهي صفات لا تتمتع بالدقة على الإطلاق.
“السلطة”، حسب اتفاقيات أوسلو، ذراع تنفيذي للمنظمة وإحدى مؤسساتها العاملة والمكلّفة بتسيير الحياة اليومية للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، تجاوزت دورها منذ وقت طويل، وتحولت الى “كل شيء” بعدما دفعت “المنظمة الأم” إلى مأوى العجزة، أو الى صندوق مهمل في القبو واحتفظت بالنسخة الوحيدة من المفتاح.
من داخل الصندوق الذي في القبو يصل صوت رئيس المجلس الوطني وأصوات أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة التي، افتراضياً، تشكل الهيئة الأعلى في الهرمية الفلسطينية بين مؤتمرين للمجلس الوطني، وهو أمر، وضع المنظمة في صندوق، يتعارض بقوة مع القانون والفكرة الأساسية لنشوء السلطة ووصفها الوظيفي والمهمة الخدمية التي أوكلت لها، ويبدو، في أفضل قراءاته، نوعاً من الانقلاب البطيء والمستدام على السلطة الشرعية، وفي القراءة الدارجة عملية “اختطاف”، ولكنها تصل الآن الى تخوم “الاغتيال”.
في تناقض محكم مع هذا التفكيك الغريب لمهمات الهيئات الوطنية الأساسية، وفصلها عن بعضها وتحويلها الى أرخبيل من جزر منقطعة، ثم عزلها كاملة عن دورها، وايداعها في صناديق، في محاكاة لقاعة توابيت، تتجمع السلطات الثلاث التي تشكل العمود الفقري لهيكلية القيادة الفلسطينية في يد الرئيس، دون غيره، نتحدث عن رئاسة منظمة التحرير، نظرياً الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ورئاسة السلطة الفلسطينية، نظرياً المكلفة بإدارة الشأن اليومي وتوفير الخدمات لفلسطينيي الضفة والقطاع، ورئاسة فتح، الفصيل الرئيسي والتاريخي في الحركة الوطنية الفلسطينية.
يمكن هنا تصور الفوضى وغياب الحوار والبرامج والبصيرة، بين مؤسسات معزولة عن دورها ومفرغة من صلاحية اتخاذ القرارات، ومعزولة عن بعضها البعض في أحد أخطر مظاهر الانقسام الذاتي، وبين تركيز السلطة الفردية وفائض الصلاحيات الذي يتمتع به الرئيس.
كل هذا في غياب الهيئة التشريعية سواء “المجلس التشريعي”، برلمان الضفة والقطاع المنتخب، الذي جرى حله بمرسوم رئاسي، أو حالة الموت السريري التي يعاني منها “المجلس الوطني”، البرلمان الوطني للشعب الفلسطيني، الذي صودرت صلاحياته، بمرسوم رئاسي، وتم “نقلها” الى هيئة أدنى منه ومنبثقة عنه جرى تعيين أعضائها في عرض “انتخابي” لم يقنع أحداً، المقصود “المجلس المركزي”، وفي غياب شبه مطلق لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية، وتأجيلها الى أجل غير مسمى، بمرسوم رئاسي أيضاً.
هذه عربة عالقة داخل عجزها، بلا خيول وبلا دواليب، وتبدو، في أفضل أحوالها، مثل محاكاة لزمن لم يعد موجوداً. عربة تحولت مع مرور الزمن الى ما يشبه “الحاجز” الذي، يمنع مرور أي امكانية للتغيير الى الجانب الآخر، ويفتش الأفكار والملابس والولاءات ونوايا العابرين.
تشكلت “السلطة الوطنية الفلسطينية” كملحق تنفيذي من ملاحق “اتفاقيات أوسلو”، ضمن التزامات متبادلة مع “سلطة الاحتلال”، سلطة انتقالية ينتهي دورها بعد انجاز ملفات “الحل النهائي” وإعلان الدولة في حدود مطلع العام 2000، هذا نظرياً. وخلال الفترة التي استغرقت ما يقارب الربع قرن، انتهى اتفاق أوسلو وتنصلت دولة الاحتلال من التزاماتها كافة، وتضاعف الاستيطان في الضفة الغربية، وتآكل دورها لينحصر في صرف رواتب الموظفين و”التنسيق الأمني”، بتعبير مجازي “صراف آلي” و”مخفر شرطة”.
يمكن هنا تعزيز هذا المصير المحزن لفكرة “السلطة الوطنية” بالخطة التي أعلن عنها سموتريتش، الوزير الفاشي في حكومة نتنياهو، حول التخلص من “السلطة”، وضمّ الضفة الغربية فعلياً ومن دون اعلان رسمي، وهي خطة قائمة تتدحرج منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي.
داخل الفقاعة التي تعيش فيها “المقاطعة” حيث مكتب الرئيس، لا يبدو أن شيئاً تغير، لا أحد هناك يفكر بالنظر من النافذة حيث يتغير العالم، ما زالت المراسيم تتدفق، والتواقيع التي تلي ديباجة التعيينات و”حرر بتاريخ…” تتلاحق؛ وزراءَ وسفراءَ ومستشارين وقضاة…، بينما يخوض الفلسطينيون من رفح في أقصى الجنوب وحتى جنين في شمال الضفة مواجهة شاملة مع المشروع الصهيوني بكافة تلاوينه، وهم يكدسون قتلاهم في مقابر جماعية لا نهائية.
بالنسبة للحكومة الإسرائيلية انتهى دور “السلطة الفلسطينية”، بعدما تم نزع “الوطنية” كمفردة من الإسم الطويل، ويجري الآن نزعها كصفة من القاموس الشعبي.
ومن الصعب الحديث عن أي دور شعبي لها في أوساط الناس بعدما بالغت في التعالي وتجاهل مطالب الشارع، وعزلت النزعات الوطنية عن سياساتها، وبعدما بددت ما يقارب العقدين في المراوحة والتحايل والتشبث بكل ما يتعارض مع المصلحة الوطنية.
المواجهة الدائرة خارج الفقاعة تجري بين الفلسطينيين والمشروع الصهيوني بامتداداته في العالم وأداته دولة الاحتلال، بينما تَضمُر السلطة الفلسطينية وتتلاشى وتواصل اختفاءها. لا يفكر الفلسطينيون، أو أغلبهم، بحل السلطة أو البحث عن بدائل ولكنهم يعرفون، أو أغلبهم، أنهم بحاجة لتغييرها، وأن هذه السلطة بشكلها وبنيتها الحالية، أشخاصاً وسياسات، لم تعد مؤهلة لقيادتهم في هذه اللحظة، حيث يتقرر مصير المشروع الوطني الذي راكموا منجزه عبر قرن طويل في متلازمة من الموت واللجوء والمقاومة.