قد تخضع “الوطنيات” بدورها إلى قانون الشيخوخة في حال احتبست معانيها في الماضي وارتهنت مفاهيمها ومضامينها للأشخاص خلف من بعد سلف، وليس إلى منطق التاريخ وحتمياته في التغيير سعيا للتطور، ليحدث ما ينعت بصدام الأجيال، كعرض من أعراض الشيخوخة الوطنية هذه، بعد ظهور عرض الاحتباس على مستوى التنمية في جل أبعادها ومجالاتها، والشعوب التي شاخت وطنياتها هي تلك التي تبدو قابعة في وحل التخلف، خاضعة لهيمنة سلطة الداخل والخارج معا، لكونها مشلولة الإرادة، محدودة الأفق لا ترى واقعها إلا من منظار وطني قديم متهالك استحال من فرط الاستعمال إلى أطلال ديماغوجية.
فما هي العناصر المسببة للشيخوخة الوطنية؟ وما العلاج الذي قدمته تجارب الأمم التي بَرُأَتْ منه؟ وما موقع التجربة الجزائرية من ذلك؟
من المفارقة أن العناصر المسببة للشيخوخة الوطنية تكمن أساسا في لحظة ميلادها، أي من المضمون الذي شكل معناها أول مرة، وذلك حين يغدو ثابتا من ثوابت الوجود الوطني ولا يجوز تحت أي طائل أو مبرر أو مسبب من الأسباب تغييره، هذا التحديد (أحيانا بالحديد) بمنطق التخليد، لمعنى الوطنية وأفقها، سيتحول مع سير وسيل الزمن إلى عنصر مانع للتطور، على اعتبار أن منطق التاريخ بتغيراته الناجمة عن التدافع والتسابق البشري يفرض التساوق مع هذا التسابق، وإلا حكم على الأمم المتمنعة عن ذلك بالتأخر.
طبعا ليس معنى ذلك أنه ليس للوطنيات أدنى عناوين أو ثوابت مميزة، تعطيها صفة الخصوصية باعتبارها قائمة في منطلقها على عبقرية الشعوب، ولكل شعب عبقريته التي صاغ نهجها وأسلوبها من تجربته الذاتية، لكن تلك العبقرية ملزمة بأن تظل مستمرة في الفعل والتفاعل في ما بين الأجيال، معبرة عن نفسها من خلالها (الأجيال) وإلا فقدت الأمة جدواها وقواها في إنتاج المعنى داخل هذا النسق الخاص، الذي هو مجبر كما أشرنا على التجاوب مع شروط التاريخ وحركة الأمم الأخرى فيه.
هكذا تعقيد علائقي في ما بين الكينونة الوطنية وحركة التاريخ البشري، وتفاعل الأشخاص والشعوب معها، فرض تفكيرا عميقا لدى العقول السياسية الكبيرة في الأمم التي راكمت تجربة محترمة في هذا النطاق تحديدا، والتي اعتبرت بأنه لا حل لإحداث تمش سلس وسليم بين مختلف هذه الأطراف سوى تبني الديمقراطية كآلية للتنظيم والحرية كأساس قيمي، وبالتالي اعتنت الديمقراطية بالتفعيل المؤسسي في حين ضمن مبدأ الحرية استمرار طرح البديل المتجاوز لمقولات الماضي بما في ذلك المقولات المؤسسة للوطنيات ولو بشكل ضمني، وهو ما تجلى بوضوح في تجارب قوى الاستعمار الكلاسيكية، مثل فرنسا التي قامت على شعار مساواة – إخاء – حرية، في حين عمليا، داست من أجل مصلحة ذاتية فرضتها الحداثة بكشوفاتها العلمية، كل تلك المقولات التأسيسية وغزت الآخرين، فارضة إراداتها عليهم بلا مساواة ولا أخوة ولا حرية وبلا رحمة!
وإلى اليوم تستمر عملية تجاوز الجوهر التأسيسي للوطنية الفرنسية الأولى من خلال المواقف حيال عديد القضايا الداخلية والخارجية للبلد، بما يقتضيه نسق التدافع العالمي والدولي الحاصل في التاريخ اليوم.
في الجزائر احتبس معنى الوطنية في لحظته الأولى حتى اختزل في وعي الإنسان الجزائري بحقبة الاستعمار، باعتبارها روح التحرر من الآخر فحسب، ومن ثم صار الحديث عنها مع خفوت الوهج الكفاحي المسلح والابتعاد في المسافة الزمنية عن فترته، من قبيل الديماغوجيا والتوظيف السلبي للتاريخ، وهو ما سيتسبب في جملة من المشاكل البنيوية للوطنية ذاتها أبرزها على الإطلاق:
1 – الإساءة الكبيرة للتاريخ الوطني لدى الأجيال المتأخرة التي خاب أملها في الخطاب الوطني ذي الأصل التأسيسي الأول والفارغ مشروعه من كل معطى جديد يسهم في الارتقاء المعيشي للمجتمع، فدوّت في قاعات وأقسام الدراسة والتكوين، العبارة الوجيعة الشهيرة “التاريخ إلى المزبلة”!
2 – كما أساء ذلك الاحتباس المفاهيمي والعملي للوطنية في الجزائر، إلى السياسة في الوعي الشعبي، حيث صارت محمولة محمل الهزل والسخرية والتنكيت، بسبب فقدانها للفعلية واكتفائها بالقولية، في ظل الشلل الذي أحيط بجهازها الوظيفي وما يحتويه من عناصر وصفات مثل النضال، التضحية والإقدام..
3 – كل ذلك سينعكس سلبا على المشاركة السياسية في كامل أبعادها ومستوياتها لاسيما منها الانتخابية حيث طغى العزوف عنها، باعتباره موقفا احتجاجيا على عدم جدوى العملية الانتخابية المتوجة لعملية سياسية عقيمة، الأمر الذي مسّ بمشروعية مؤسسات الدولة ومصداقيتها.
فالخلل إذن هنا ضارب في أعماق الوجود الوطني، ويتعلق بأزمة عضوية تتصل بشاكلة تركّب وعي بالمسألة الوطنية، تأبى أن تغادر نطاقها الزمني وتندرج ضمن حركية التاريخ التي يتفاعل فيها الداخلي مع العالمي وفق مقتضيات جديدة ومتجددة تتجاوز المحددات التي تفرضها قناعات وفلسفات قديمة، فلا تزال بعض النخب الشيوعية مثلا تحكم بعض دول شرق أوروبا مثل رومانيا، لكن بعد أن تخلت عن الكثير من القناعات الأيديولوجية السابقة التي كانت تفرضها كمرجعية وطنية واحدة، فاستحالت تلك النخب والجماعات إلى مجرد تنظيمات وظيفية خاضعة لنسق مجتمعاتها في التطور عبر التنوع والاختلاف في إطار حقيقي وصريح من تفعيل الديمقراطية والحرية باعتبارهما أساس العيش الوطني المشترك والذي يضمن استمرار روح الانتماء.
فليس أخطر من أن تحشر الشعوب والمجتمعات في زاوية الإرادة القيادية القديمة، بحسبانها البوصلة الأزلية والوحيدة لمعنى الوطنية، التي يتوجب أن يسير وفق إشارتها الأفراد والمجتمع، متجاهلة بالتالي خطر الشيخوخة الذي قد يتهدد حياة الأمم بسبب منع عبقرية أجيالها من تجديد الأطر المفاهيمية لعناصر عيشها المشترك كما تقتضيها وتفرضها السنن والقوانين التي تحكم التاريخ.
والجزائريون الذين عرفوا بتشبثهم وبحبهم لوطنهم، لا يزالون اليوم يبحثون عن شكل للوطنية التي تلاشت ملامحها مع فشل عملية تجسيد مشروع دولة الاستقلال، وما واكب ذلك من أحداث جسام، كانت الحمولة المفاهيمية وشعرية الوطنية الأولى بهشاشتها وشيخوختها عاجزة عن أن تقي شرها المجتمع، وما لم يحصل الوعي الحتمي بضرورة إعمال مبدئي لديمقراطية المؤسسية الصحيحة وللحرية كترياق للعمليتين السياسية والانتخابية سيظل التغيير عصيا عن التشييد والتجسيد في أفق الأمة والمجتمع على حد سواء.