الوحدة الإفريقية في مواجهة أشباح “مبدأ ويلسون”
ظل حرص مصر على استمرار الدعم الخارجي والإفريقي لها في مواجهة إسرائيل أمرًا ملحوظًا؛ لا سيما قبل حرب أكتوبر مباشرة، واتضح ذلك، على سبيل المثال، في قمة دول عدم الانحياز الرابعة في الجزائر (سبتمبر 1973م)، والتي شهدت حضورًا إفريقيًّا مكثَّفًا للغاية
وقفت الدول الإفريقية، قبل نصف قرن، موقفًا تاريخيًّا صلبًا في صفّ مصر والقضية العربية في مواجهة العدوان الصهيوني التوسُّعي بعد عدوان يونيو 1967م، ودلالاته التوسعية والاستعلائية بتعمُّد وصف رئيسة الوزراء الإسرائيلية وقتها جولدا مائير “للضفة الغربية للقناة بإفريقيا”، كما سرد وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في مؤلفه Years of Upheaval (2011).
وتباينًا مع هذا الموقف الثابت تلا انتصار أكتوبر 1973م (الذي تحلّ ذكراه الشهر المقبل في أجواء “استعمارية جديدة” بامتياز تكتنف شتى أرجاء القارة السمراء في غياب توازن حقيقي في النظام الدولي إزاء إفريقيا تحديدًا) تحوُّل مصريّ تدريجيّ بالابتعاد عن مجمل القضايا الإفريقية في سياق تبنّي الرئيس الراحل أنور السادات سياسة براجماتية خلاصتها شعار “مصر أولًا”.
ويُلاحَظ على سياسات مصر الإفريقية في عهد السادات أنها كانت مفهومة (وربما منطقية) على المدى القصير وفي ظروف “ما بعد الحرب”، لكنها باتت معضلة خطيرة تعاني من تداعياتها القاهرة حتى اللحظة في ارتباطاتها بالقارة السمراء، وتَشِي قراءة التطبيق النضالي الفريد لمبادئ الوحدة الإفريقية، سواء من أغلب دول القارة مباشرةً أو عبر آلية منظمة الوحدة الإفريقية وقتها، رغم تمكُّن إسرائيل في سنوات سابقة من تحقيق تغلغل ناجح داخل العديد من النخب الإفريقية “جنوب الصحراء”، ثم الاستجابة المصرية الخجولة أو السطحية (بعد الحرب) تجاه العمل الوحدوي الإفريقي بكشف ثغرة مزمنة في مسار “العلاقات العربية الإفريقية “لا تزال قائمة وبقوة، وعلى أسس راسخة، قوامها الارتباطات اللحظية والمحكومة بمصالح سياسية واقتصادية وسياسات “القوى العظمى” بالأساس، وهي ملامح تزيد بدورها من تعقيدات القدرة على فهم ديناميات هذه العلاقات أو إمكانات تطويرها.
جولدا مائير وإفريقيا: البناء على صلة مثالية!([1])
خصَّصت رئيسة الوزراء إسرائيل جولدا مائير (1898-1978م)، -التي شغلت منصب وزيرة خارجية بلدها في الفترة ما بين (1957-1965م) تحت قيادة بن غوريون-، فصلًا مُهمًّا في سيرتها الذاتية My Life (1977) حول تطورات الصداقة الإسرائيلية الإفريقية، ووضعت فيه تحليلًا رصينًا –وأمينًا بشكل لافت- لانخراطها في الشؤون الإفريقية منذ نهاية الخمسينيات “استجابةً للوضع الذي واجهته إسرائيل بعد حملة سيناء” (1956م)، في إشارةٍ إلى عزلة الكيان الصهيوني الملحوظة باستثناء صلته الوطيدة بفرنسا و”دولة أو اثنتين” في أوروبا، والعلاقة “المأزومة” مع الولايات المتحدة([2]) بحسب تأريخها. وبلغة حالمة/ غير تاريخانية (تتجاهل نزعة إسرائيل العدوانية البنيوية في صميم مشروعها)، لاحظت أنه خلال حضورها جلسات الأمم المتحدة في العامين 1957-1958م، وبعد استبعاد إسرائيل من “نادي دول عدم الانحياز”، لطالما فكرت “ليس لدينا عائلة هنا، لا أحد يشاركنا ديننا أو لغتنا أو ماضينا. ويبدو العالم متجمعًا في كتل قائمة على الجغرافيا والتاريخ من أجل تقديم المصالح المشتركة لشعوبه. لكنّ جيراننا -وحلفاءنا الطبيعيين- لا يريدون مشاركتنا في أيّ شيء، وإننا بالفعل لا ننتمي لموقع ولا لأحد إلا أنفسنا”([3]).
وقد بدت “إفريقيا” -بحسب سرد مائير في سيرتها- خيارًا مثاليًّا لتوسُّع إسرائيل دبلوماسيًّا وخروجها من عزلتها عبر توطيد العلاقات مع دول القارة التي كانت تُوشك حينذاك على نيل استقلالها.
وكانت جولدا مائير قد اتجهت بالفعل مع بدء فترة عملها وزيرة للخارجية (في يونيو 1956م خلفًا لسلفها موشيه شاريت بعد توليها منصب وزيرة العمل)، نحو دَفْع علاقات بلادها مع إفريقيا لآفاق جديدة، وسط اندفاعة قوية لشنّ عدوان ضد مصر بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر؛ وباتت إفريقيا، التي لم تَزُرها مائير قبل العام 1958م، الهدف الرئيس لسياساتها بعد تسويتها العديد من المسائل “الإدارية” العالقة داخل الوزارة من قبيل صلتها بالموساد وأدوار سفارات إسرائيل في باريس ولندن وبون على سبيل المثال، حسب مؤلف ميرون ميدزيني M. Medzini “جولدا مائير: سيرة ذاتية سياسية” (الطبعة الإنجليزية 2017م)([4])، وتوجَّهت أول دفعات من الإسرائيليين إلى إفريقيا من بين سكان الكيبوتس، ومسؤولي الهستدروت وشركة Solel Boneh للتشييد، وتوجَّهوا بدايةً إلى أكرا ولاجوس ونيروبي، ثم إلى ليبيريا وإثيوبيا. كما استقبلت إسرائيل منذ العام 1957-1958م مجموعات من القادة الأفارقة الشبان لمعاينة “التجربة الإسرائيلية”، والتقى عدد كبير منهم بمائير “التي ساعدتهم على النظر لبلادها كصديق”([5]). وقدَّمت بعدها إسرائيل نحو 1000 منحة علمية لطلاب من إفريقيا وآسيا معًا.
وبالفعل توجَّهت جولدا مائير في نهاية فبراير 1958م إلى إفريقيا في جولةٍ استغرقت شهرًا كاملًا، وشملت غانا وليبيريا ونيجيريا وأقاليم إفريقيا الفرنسية في ضوء الصلة المتميزة بين تل أبيب وباريس (وكانت إسرائيل قد عرضت على فرنسا وقتها استئجار مجمل أراضي مستعمرتها غيانا الفرنسية في أمريكا اللاتينية عبر شركة إسرائيلية فرنسية لاستغلال موارد المستعمرة لمدة 30 عامًا([6]))، وأكدت بعد هذه الجولة في تصريح لافت (نهاية مارس 1958م) أن إسرائيل عاقدة العزم “على مساعدة الدول الإفريقية الجديدة في تنميتها الاقتصادية”، وأن الخبراء الإسرائيليين سيعملون “قريبًا” على مشروعات في هذا السياق.
وبلورت مائير هذا التوجُّه -مثالًا- بإقدامها على الموافقة على قرار الأمم المتحدة بإدانة الأبارتهيد في جنوب إفريقيا (نوفمبر 1963م)، ودفاعها القويّ عن ذلك في أروقة الكنيست في الشهر نفسه، بأن أيّ خطوة مخالفة لخطوتها تلك تُعدّ مخالفة للأخلاقية اليهودية لدولة إسرائيل، قبل أن تشير صراحةً إلى أن مسالة العنصرية في جنوب إفريقيا مسألة مسَّت “أرواح” الأعضاء الأفارقة بالأمم المتحدة.
ويمكن، في ضوء هذه الخلفيات التاريخية، فهم حميمية الاستقبال الذي حَظِي به الرؤساء الأفارقة الأربعة الذين زاروا إسرائيل (نهاية نوفمبر 1971م) لإعادة إطلاق عملية السلام “في الشرق الأوسط”، وهم السنغالي ليوبولد سنغور (رئيس الوفد الإفريقي الممثل لمنظمة الوحدة الإفريقية)، والنيجيري يعقوب جوون، والزائيري جوزيف موبوتو، والكاميروني أحمد أهيدجو. والذين التقت بهم مائير في الكنيست، وأعادت أمامهم -بعد طرحهم مبادرة إحياء بعثة جارنج- التأكيد على تصميمها على عدم السماح لأيّ قوات مصرية بعبور قناة السويس حال إعادة فتحها للملاحة (وبعد إعلانها قبل أيام من الزيارة “الإفريقية”، ومقابلتها مع الرئيس الأمريكي نيكسون “تفضيل إسرائيل استئناف محادثات جارنج دون شروط مسبقة”)، ولفتت مصادر إسرائيلية وقتها إلى عدم رؤية كل من سنغور وجوون لإسرائيل كدولة معتدية في الصراع، كما أكدت عدم مطالبتهما في الاجتماعات المغلقة مع مائير بالانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط 4 يونيو 1967م (خلافًا لقرار منظمة الوحدة الإفريقية في يوليو 1971م ولمواقف جوون تحديدًا المعلنة).
كما تُفسِّر مقاربة إسرائيل الإفريقية التي اكتسبت طابعًا حميميًّا إشكالية الموقف العربي من بعض الدول الإفريقية في أجواء الصراع العربي الإسرائيلي. وعلى سبيل المثال: فإن الرئيس الليبي السابق معمر القذافي، الذي عُدَّ واحدًا من أبرز داعمي مصر في أزمتها خلال الحرب، اتهم أديس أبابا مباشرة قبيل انعقاد قمة منظمة الوحدة الإفريقية العاشرة في مايو 1963م بدعم “العدو الصهيوني”، وطالَب بنقل فعاليات القمة إلى القاهرة، واشترط لعقدها في العاصمة الإثيوبية قيام الأخيرة بقطع علاقاتها على الفور مع تل أبيب (وهو القرار الذي اتخذه الإمبراطور هيلا سيلاسي نهاية أكتوبر 1973م، وفي أجواء مغايرة تمامًا).
لكنّ هيلا سيلاسي بادر بالتوجُّه للقاهرة “سرًّا”، والتقى بالسادات لتوضيح موقف بلاده وصلاتها الوطيدة مع جيرانها العرب، وكذلك دعوتها الصريحة لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة وفق بيانات تصويتها في الأمم المتحدة([7])؛ وهي زيارة آتت أُكلها، وانتهت برد هيلا سيلاسي علنًا على “اتهامات” القذافي جملةً وتفصيلًا، كما أكد هيلا سيلاسي في الكلمة الرئيسة أمام منظمة الوحدة الإفريقية، في نوفمبر 1973م، إدانته الصريحة لإسرائيل التي تحتل أراضي عربية.
السادات وسيد اللعبة وجهًا لوجه: التراجع الإفريقي
كان السادات منفتحًا منذ تقلده السلطة -خلفًا لعبد الناصر- على التوصُّل لحل سلمي للأزمة مع إسرائيل وإنهاء احتلالها لسيناء، وإبداء مرونة كبيرة للتعاون مع الولايات المتحدة في هذه المسألة دون إغفال صلات مصر الوثيقة مع الاتحاد السوفييتي.
لكن واشنطن كانت تنظر لمجمل أزمة الشرق الأوسط، لا سيما بعد العام 1972م، كقضية ثانوية في خِضَمّ تعقيدات السياسة الأمريكية الدولية بعد زيارة نيكسون للصين، وتصاعد الأزمة في شمالي فيتنام وزيارة كيسنجر السرية لموسكو في أبريل 1972م.
وكان لافتًا في القمة الأخيرة تأكيد كيسنجر لوزير الخارجية السوفييتي أندريه جروميكو توقُّف كل الأمور “بما فيها أيّ تقدم في التسوية السلمية بالشرق الأوسط” على وضع نهاية للأزمة في فيتنام.
وكان مُلاحَظًا في قمة موسكو (مايو 1972م) اتفاق الأمريكان والسوفييت على بيان مبادئ مُوسَّع لم يضمن بالأساس (أيّ) ذِكْر لانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة، وربما دفَع هذا البيان السادات لخطوة طرد نحو 15 ألف مستشار سوفييتي من مصر في يوليو 1972م، ورسَّخ لدى السادات قناعة أن أيّ تسوية مع إسرائيل ستتم عبر الولايات المتحدة وحدها([8]).
وكان دالًّا للغاية تفاقُم ثانوية دور الوساطة الإفريقية في “أزمة الشرق الوسط”، خاصةً بعد التجاهل الإسرائيلي، فيما كان مكتب مستشار الأمني القومي الأمريكي حينذاك هنري كيسنجر يستحوذ بشكلٍ لافت على مفاصل هذه العملية بشكل منفرد. وإدراكًا من القيادة المصرية لهذه المتغيرات بادَر السادات في فبراير 1973م بإطلاق مبادرة سلام مع إسرائيل وُصِفَت “بالسرية”، وصفها يوري بار-جوزيف (2006م)([9]) بأنها قد تكون أهم مقترح دبلوماسي في الأزمة (1967-1973م)، واكتسبت المبادرة أهميةً كبيرةً من جهة أن الوسيط هو كيسنجر، مهندس سياسة نيكسون الخارجية الذي وصل لذروة قوته في الإدارة الأمريكية مطلع العام 1973م، ولم يكن بحالة ضعف سلفيه جونر جارنج Gunnar Jarring أو الأقل قوة وزير الخارجية الأمريكي وليام روجرز؛ كما أن المبادرة ظلت سرية على النحو الذي رغب فيه السادات، وهي صيغة نجحت تمامًا في جهود كيسنجر في اتفاق السلام مع فيتنام والتهدئة مع الصين، ما عنى اهتمام السادات بإنجاز السلام وتجاهل الاحتفاء بالدعاية أو الإثارة السياسية.
كما أن مضمون المبادرة كان جديدًا من نوعه؛ إذ لم يُشِر فحسب إلى تسوية سلمية بين إسرائيل ومصر (وهي مبادرة في حد ذاتها)، لكنها كانت تسوية شاملة (في رؤية القاهرة وواشنطن) للتنافس العربي الإسرائيلي عبر إنهاء الصراع بين إسرائيل وسوريا والأردن والفلسطينيين، بما يشمل عمليتي السلام وتطبيع العلاقات. كما أن رفض إسرائيل للمبادرة مباشرةً من السادات وتلقّيها ببرود واضح عند عرض كيسنجر لها أقنع الأول (وفق المصادر المصرية) بعدم كفاية الوسائل الدبلوماسية، ومن بينها الجهود الإفريقية، وأن إعلان الحرب يجب إعلانه في “أقرب وقت ممكن”، وهو ما وقع بالفعل في 6 أكتوبر 1973م.
على أيّ حال؛ فقد اتسق سلوك السادات وتقرُّبه من كيسنجر، لا سيما مع التهميش المستمر لأيّ مبادرات، ومن بينها تلك الإفريقية في ظل التجاهل الإسرائيلي العملي لها، مع صعود دور الأخير في صنع السياسة الخارجية الأمريكية، وهو توجُّه رصده عساف سينفير في سِفْره المُهِمّ Nixon, Kissinger, and U.S. Foreign Policy Making (2008)، لا سيما إحكام كيسنجر قبضته على ملف تسيير صنع القرار الأمريكي بعد بدء حرب أكتوبر؛ إذ تولى بالأساس وضع قرار الإمداد العسكري الأمريكي لإسرائيل في 14 أكتوبر الذي باغت، بحسب سينفير، البيروقراطية الأمريكية والإسرائيليين والرئيس نيكسون نفسه، كما فرض نيكسون في الأيام الأخيرة من الحرب قرار وضع القوات المسلحة الأمريكية في أقصى مستويات الاستعداد الحربي (منذ أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962م)([10])، وهو القرار الذي صادَق عليه نيكسون في اليوم التالي، ما كشف عن تفويض الأخير للأول في اتخاذ قرارات “آنية” تصبح سارية في وقتها تقريبًا.
ويمكن ملاحظة أن أفكار كيسنجر وسياساته، التي قامت بالأساس على معاملة الأزمات كجزء من أجندته المحددة سلفًا (كما اتضح في فترة مبكرة من حياته في أطروحته حول معنى التاريخ في رؤى شبنجلر وتوينبي وكانط- 1950([11]))، وليس الاستجابة لهذه الأزمات في حدّ ذاتها؛ ومِن ثَم تجاهل الأسباب الإقليمية والمحلية المعقَّدة لهذه الصراعات واستمرارها دون معالجة حقيقية (كما اتضح في التدخل الأمريكي في أنجولا في عهده)([12])، قد لاقت تفهمًا واضحًا لدى السادات المعروف بوَلَعه بالسياسة على الطريقة الأمريكية، كما قد يتضح في اختياره أهمّ أيام التقويم العبري (يوم كيبور) لشنّ الحرب التي مثَّلت الهزيمة العسكرية الأكبر للكيان الصهيوني منذ قيامه على أرض فلسطين، وما عبَّر عنه شخصيًّا في سيرته الذاتية “البحث عن الذات” من أن أول لقاء له مع كيسنجر في أواخر أكتوبر 1973م بعد وقف إطلاق النار (22 أكتوبر) في جلسة استغرقت 3 ساعات شعر السادات بعد الساعة الأولى بأنه “أمام عقلية جديدة وأسلوب جديد في السياسة، وأني أرى لأول مرة وجه أمريكا الحقيقي الذي كنت فيما مضى أتمنى أن أراه”، وملاحظته أنه “لو رآنا أحد بعد الساعة الأولى… لاعتقد أننا أصدقاء منذ سنوات وسنوات”([13]).
السادات و”مبدأ ويلسون”: شتاء مصر الطويل في إفريقيا
ظل حرص مصر على استمرار الدعم الخارجي والإفريقي لها في مواجهة إسرائيل أمرًا ملحوظًا؛ لا سيما قبل حرب أكتوبر مباشرة، واتضح ذلك، على سبيل المثال، في قمة دول عدم الانحياز الرابعة في الجزائر (سبتمبر 1973م)، والتي شهدت حضورًا إفريقيًّا مكثَّفًا للغاية.
وفيما انشغلت الدول الإفريقية بمسألة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا، والاستعمار في دول مثل موزمبيق وأنجولا وروديسيا؛ قادت مصر الجهود العربية في القمة لحشد الموقف الإفريقي خلف قضيتها، وتحقيق هدفين رئيسيين؛ وهما: حشد موقف دولي ضد إسرائيل، ومِن ثَم ترجمة هذا الحشد في شكل دعم دبلوماسي مستمر([14]).
ويمكن سرد تطورات هذا المسار التضامني فيما لخَّصه عليّ مزروعي من موقف “إفريقيا السوداء” الداعم لمصر في صراعها مع الاحتلال الصهيوني بتوصيف مقتضب ومباشر بملاحظته أن أغلب الدول الإفريقية قد أصابتها “خيبة الأمل” في إسرائيل، حتى قبل حرب أكتوبر؛ لأسباب متنوعة ما بين اعتقادٍ نامٍ أن الدولة العبرية مجرد “فتوة صغير” mini-bully في الشرق الأوسط، وعلاقة متوترة مع أفراد المساعدات الفنية الإسرائيلية للدول الإفريقية (فيما اعتُبِرَ وقتها تدخلًا سافرًا في شؤون تلك الدول). وبادرت النيجر في يناير 1973م بقطع علاقاتها مع إسرائيل، وتلتها مالي. وفي مايو لحقتهما بوروندي، ثم توجو في سبتمبر. لكنَّ المباغتة الكبرى في هذا السياق جاءت خلال كلمة الرئيس موبوتو سيسي سيكو رئيس لجمهورية الكونغو الديمقراطية في مقر الأمم المتحدة في نيويورك قبل أيام من حرب أكتوبر بإعلانه قطع العلاقات مع إسرائيل، موضحًا أنه اضطر إلى الاختيار بين صديق (إسرائيل) وشقيق (مصر)، كما انتقد التوسع الاستعماري الإسرائيلي في الأراضي العربية([15]).
على أيّ حال فقد خرج السادات من حرب أكتوبر مُحمَّلًا بثِقَل ملفات داخلية وإقليمية منوعة؛ لكن بدا واضحًا أن تبنّيه خيار سياسة “مصر أولًا”، قد تجاهل ضمنيًّا تبعاتها على ارتباطات مصر الإقليمية، ومن بينها صلاتها مع دول القارة الإفريقية التي دعمتها في مواجهة العدوان الإسرائيلي.
وللمفارقة فإن مؤتمر القمة العربي الإفريقي الأول الذي عُقِدَ بالقاهرة في العام 1977م بغرض إقامة مؤسسات لتعزيز التعاون بين الدول العربية ونظيرتها الإفريقية كان بدايةً لانحسار اهتمام مصر الإفريقي بشكل كبير في السنوات التالية، عِوضًا عن إسهام التوصل للسلام بين إسرائيل ومصر –ضمن عوامل أخرى بطبيعة الحال- في العودة الإفريقية القوية لإسرائيل مع مطلع الثمانينيات، ومراوحة مصر في مكانها –على الأقل- إفريقيًّا لعقودٍ ولأسباب متنوعة، من بينها: عدم انتهاز فرصة انتصار أكتوبر، وإطلاق مرحلة شراكات سياسية وتعاونية مع الدول الإفريقية لا سيما التي وقفت إلى جوار مصر في واحدة من أعتى أزماتها.