يعاني العراق منذ 21 عاما وحتى ما قبل إسقاط النظام الدكتاتوري أيضا من غياب حقيقي للهوية الوطنية، وخاصة في الساحة السياسية، حيث تطغى مصالح الهويات السياسية والقومية والمذهبية على الهوية الوطنية العراقية، وقد يرى البعض أن الأمر طبيعي إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التاريخ القريب للبلاد، بعد استيلاء حزب البعث المنحل على السلطة في ستينيات القرن الماضي عبر إسقاط النظام الجمهوري وبناء نظام شمولي يقوده حزب دكتاتوري مارس الفاشية بمختلف أشكالها من سياسية وقومية ومذهبية، وكل ذلك كان على حساب الهوية الوطنية، لكن البعض الآخر يرى أنه بعد تحرير العراق من الدكتاتورية في 2003 كان يفترض أن نذهب إلى إعادة الاعتبار للهوية الوطنية العراقية في ظل نظام اتحادي، يضمن الحقوق والهويات الفرعية لمكونات الشعب تحت خيمة الهوية الوطنية الشاملة.
بعد تحرير العراق كان من الطبيعي جدا أن نشهد مرحلة انتقالية تمر بها البلاد، حتى تترسخ دعائم الديمقراطية ونصل لمرحلة من النضج النسبي لها، صحيح أن الديمقراطية بحاجة إلى عقود وقد تكون قرونا لتصل لمراحل متقدمة لكن بكل تأكيد العقود الأولى هي بمثابة اللبنة الأولى لبناء الديمقراطية بشكل صحيح.
فنحن لدينا نظام سياسي فريد في المنطقة ونحسد عليه كعراقيين، ناهيك عن أن لدينا دستورا من أرقى الدساتير، التي تكفل الحقوق والحريات المدنية الفردية والمجتمعية ويؤسس لثقافة قائمة على احترام المواطنة والهوية الوطنية، لكن وبكل صراحة لعب الفاعل السياسي دورا سلبيا إلى حد ما في صيانة هذا الدستور ومفاهيمه، التي تعزز الروح الوطنية وهويتها في المجتمع العراقي، فمن منطلق سياسي بحت تم تصوير الفيدرالية على أنها تقسيم أو بداية تقسيم، وتم تصوير مجالس المحافظات على أنها إضعاف للحكومة الاتحادية، كما تم تصوير المحكمة الاتحادية والقضاء على أنه مسيس لا مستقل، وكل ذلك كان يتم بدرجة كبيرة من أجل مصالح حزبية وسياسية في إطار الصراعات والمناكفات السياسية التي ما فتئت تغادر العقلية السياسية والمتصدرين للمشهد في إدارة البلاد.
إن كل ما قام به الفاعل السياسي خلال العقدين المنصرمين باتت نتائجه السلبية تنعكس على الساحة السياسية اليوم، حيث نشهد فقدانا للثقة المتبادلة بين مختلف القوى السياسية، ويتجلى ذلك واضحا في أداء مجلس النواب وتشريعه للقوانين، بل انعكس الأمر بشكل سلبي في الكثير من الأحيان حتى باتت هناك مشاريع قوانين على رفوف المجلس لم تشرع منذ بداية تأسيس النظام السياسي الجديد، كقانون النفط والغاز، وقانون المحكمة الاتحادية، وغيرهما، وحتى القوانين السنوية كالموازنة العامة للدولة تشهد صعوبة في الاقرار جراء الأداء السياسي للكثير من القوى السياسية، كما أن فقدان الثقة بين القوى السياسية يتجلى في ملفات أخرى لا تقل أهمية عن تشريع القوانين، وعلى سبيل المثال العلاقة مع الدول وخاصة الولايات المتحدة وخروج قوات التحالف الدولي من العراق، حيث نلاحظ أن تباين الآراء والمواقف السياسية حيال هذا الملف، يضعف بشكل أو بآخر موقف الحكومة الاتحادية في الحوار مع الولايات المتحدة بشأن ذلك.
إن العراق اليوم وفي ظل التغيرات الاقليمية والدولية وحالات الاستقطاب والمحاور في منطقتنا على وجه الخصوص بحاجة إلى تعزيز مفهوم الروح الوطنية وهويتها، لأنها الضمانة لتماسك العراق وقدرته على مواجهة التحديات والصعاب في المرحلة الراهنة، وباعتقادي أننا بحاجة إلى دورتين أو ثلاثة تشريعيات كما الدورة الحالية والحكومة التي تمخضت عنها لنؤسس بشكل صحيح لسيادة الهوية الوطنية، فالخطوة التي اتخذتها القوى السياسية بالانضواء تحت خيمة ائتلاف واحد وهو ائتلاف إدارة الدولة وتشكيل حكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني تجربة أثبتت نجاحها إلى حد كبير من خلال الأداء الحكومي المميز حتى اللحظة عن أداء باقي الحكومات المتعاقبة منذ 2003، وحسبنا أنها حافظت على الهدوء السياسي بين القوى المختلفة، كما أنها باتت تعطي المواطن بصيص أمل من خلال المنجزات التي تحققت خلال اقل من عام ونصف من عمر.