لبنان

الهوية اللبنانية.. من المسيح إلى السيّد

تختلج الجمهورية اللبنانية بتناقضاتها وتساؤلاتها الوجودية، ففي الوقت الذي يؤكّد فيه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله على عدم وجود علاقة بين الجبهة الجنوبية مع إسرائيل وملف رئاسة الجمهورية، يصر على إجراء “العدّ” الديموغرافي، الذي يُعتبر خطوة خطيرة نحو تقويض ميثاق العيش المشترك الذي تأسست عليه الدولة اللبنانية

في خضم الأزمات المتراكمة التي تعصف بلبنان، يتصاعد جدل حاد حول هويته الوطنية ونظامه السياسي، يرتفع صوت عالٍ معلناً عن أكبر قاعدة شعبية وأكبر حزب سياسي، داعياً إلى إجراء “العدّ” الديموغرافي، بينما ترتفع أصوات أخرى تطالب بالانفصال أو تأسيس نظام فيدرالي.

بين هذين الطرفين، تختلج الجمهورية اللبنانية بتناقضاتها وتساؤلاتها الوجودية، ففي الوقت الذي يؤكّد فيه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله على عدم وجود علاقة بين الجبهة الجنوبية مع إسرائيل وملف رئاسة الجمهورية، يصر على إجراء “العدّ” الديموغرافي، الذي يُعتبر خطوة خطيرة نحو تقويض ميثاق العيش المشترك الذي تأسست عليه الدولة اللبنانية.

في الجهة المقابلة، تطالب الأصوات المسيحية بشكل متزايد بالانفصال أو تأسيس نظام فيدرالي، معتبرة أن التخلّي الغربي والدولي عن المسيحيين في لبنان بدأ منذ توقيع اتفاق القاهرة العربي المشؤوم عام 1969، وتفاقم بعد اغتيال الرئيس اللبناني بشير الجميّل في 1982 على يد جماعة أبونضال.

تتصادم ثقافتا الفصل والوصل في لبنان بعنف شديد، وتُطرح تساؤلات جوهرية حول معنى وجوده كدولة موحدة ذات سيادة، فهل يمكن للبنان أن يحتمل رأساً واحداً يحدد الوجهة السياسية للبلاد، على غرار النموذج الإيراني القائم على سلطة ولاية الفقيه؟ أم أن قيمته الحقيقية تكمن في تنوعه بمكوناته المختلفة؟

يُذكّر نصرالله اللبنانيين بأن حزبه الذي يمثل “أكبر قاعدة شعبية” يملك “مئة ألف مقاتل، وأسلحة متطورة”، ويدعوهم في الوقت ذاته إلى “الحوار” معه للاتفاق على مرشحه لرئاسة الجمهورية وهو الوزير السابق سليمان فرنجية. لكن هذه الدعوات المزدوجة للحوار والترهيب تبدو متناقضة مع مبدأ العيش المشترك، وتُغذي الرغبة في الانفصال لدى البعض من اللبنانيين المنتمين إلى مكونات أخرى.

يشير نصرالله إلى أن حزبه يمتلك أيضاً “أكبر عدد من الأصوات التفضيلية في الانتخابات النيابية” و”أكبر شبكة من التحالفات” الإقليمية. هذه المعطيات تؤكد رغبته في السيطرة وفرض نفوذه على باقي مكونات المجتمع اللبناني، مما يزيد من حدة الخلافات ويغذي دعوات الانفصال والفيدرالية.

لا شك أن دعوات الانفصال المسيحية أو تأسيس نظام فيدرالي هي ردّة فعل على الخطاب الطائفي المتشدد الذي يهدد بفرض هيمنة طرف واحد على باقي المكونات، لكنها في الوقت نفسه تهدد بانهيار النظام السياسي اللبناني وتفكك بنيانه الوطني الهش، علاوة على التوترات السياسية فلبنان يعاني من أزمات اقتصادية واجتماعية حادة. ارتفاع معدلات البطالة، الفقر، والفساد المستشري يزيد من الوضع المتأزم. ووفقًا لإحصائيات البنك الدولي تجاوزت نسبة الفقر في لبنان الـ50 في المئة، مما يزيد من صعوبة التوصل إلى حلول سياسية في ظل تفاقم المعاناة اليومية للمواطنين.

في خضم هذا الجدل المتصاعد، يُطرح السؤال الجوهري: هل يملك اللبنانيون من مختلف الطوائف والانتماءات الشجاعة والحكمة للحفاظ على وحدتهم الوطنية وتنوّعهم الغني الذي يشكل روح لبنان الحقيقية، أم سيضحّون بها مقابل انقسامات طائفية وسياسية قد تطيح بالجمهورية اللبنانية وتقضي على فكرة الدولة الواحدة؟

قد تكون إحدى الخطوات الفعّالة للحد من هذا التوتر هي تعزيز الحوار الوطني الشامل الذي يضم كافة الأطراف اللبنانية، والعمل على إيجاد حلول وسطى تقبل بها جميع المكونات. يمكن للنظام الفيدرالي أن يكون حلاً وسطاً يضمن استقلالية بعض المناطق مع الحفاظ على وحدة الدولة، كما يمكن أن تلعب المنظمات الدولية دوراً مهماً في تقديم الدعم المالي والاقتصادي للبنان، شريطة تطبيق إصلاحات جدية تضمن الشفافية ومكافحة الفساد، وهذا يمكن أن يخفف من حدة الأزمة الاقتصادية ويعيد بعض الثقة بالنظام السياسي.

لا شك أن الطريق شائك وملتوٍ، والتحديات كبيرة ومعقدة للغاية، لكن لبنان، هذا البلد الصغير العظيم، قد خرج في السابق من محن أشد قسوة على مر تاريخه الحافل بالصراعات الطائفية والأزمات الداخلية. فهل يمكن للبنانيين أن يتجاوزوا هذه المرحلة الحرجة بتكاتفهم ووحدتهم؟ أم أن الأزمات الراهنة ستدفع بهم نحو المزيد من الانقسامات والتشتت؟ الأيام القادمة وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات الحارقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى