الهدوء المصري المطلوب في أزمة اللاجئين
في جميع الأحوال لا يضج المصريون من وجود عرب يعيشون بينهم بسلام، لكنهم يكرهون التطاول عليهم أو استفزازهم في بلدهم.
مر على مصر مواطنو دول عديدة، عربية وغير عربية، ولم يشعر أهلها بأن هناك أزمة مهاجرين أو لاجئين حادة، وتم صهر الكثير منهم في نسيجها الاجتماعي أو عادوا إلى بلدانهم، وما جرى خلال الأيام الماضية مع نفر من السودانيين أوحى بوجود أزمة مستعصية، تذكّر بأخرى حدثت مع سوريين قبل بضعة أشهر، وفي الحالتين بدت مصر كأنها تلفظ المقيمين على أرضها وشعبها يتذمر من وجودهم ومنافستهم.
هدأت ضجة السوريين، وستهدأ أزمة نظرائهم من السودانيين، لكن تبقى العبر والدروس والنتائج التي يمكن استخلاصها، لأن أزمات الجاليات العربية المقيمة في مصر لأسباب اللجوء والهجرة والإقامة لا تنتهي، ومن الطبيعي في بلد يقطنه عشرة ملايين أجنبي ويعاني من أزمة اقتصادية أن تحدث مناوشات بينهم وبين مواطنين.
يُحسب لأجهزة الدولة المصرية أنها تتصرف بحكمة مع المشكلات الناجمة عن وجود هذا العدد الكبير من المغتربين، وتحاول التوازن بين مسؤوليات عدة، إنسانية وسياسية وقانونية وأمنية واجتماعية، كي تضمن بقاء هؤلاء في هدوء وتحاشي حدوث خلل في الدولة، يمكن أن يؤدي إلى أزمات تهدد استقرارها، ومن حسن حظ مصر أن لديها جهازا أمنيا يقظا وصارما لا يسمح بتجاوزات تؤثر على اللُحمة الوطنية، أو تهدد الروابط القومية التي لم تهتز مع توالي الهجرات منذ عقود طويلة بسبب انتشار الحروب والنزاعات والصراعات في دول عربية عدة، بدءا من نكبة فلسطين في أواخر الأربعينات من القرن الماضي وحتى نكبة السودان الحالية، مرورا بنكبات العراق واليمن وسوريا وليبيا والصومال.
جاء يوم اللاجئين العالمي في العشرين من يونيو هذا العام مصطحبا معه أزمة مزدوجة مع سودانيين يقيمون في مصر، الأولى جاءت من تقرير أصدرته منظمة العفو الدولية أشارت فيه إلى ارتكاب أجهزة الأمن انتهاكات واعتقالات وترحيل تعسفي بحق سودانيين، والثانية خرجت من رحم قيام سودانيين بوضع لافتة على مقار عملهم تحوي خريطة جغرافية لبلدهم، تتضمن منطقة حلايب وشلاتين المنسية والمتنازع عليها بين مصر والسودان، ويعتبرها كل واحد منهما تابعة له، وهي تحت سيادة مصر الآن.
مضت الأزمة الأولى إلى حال سبيلها وانطفأ فورانها، لأن القاهرة اعتادت عليها من منظمة العفو في حالات مختلفة، وتراجعت حدة الثانية لكنها خلفت وراءها آثارا سلبية، فلم تتدخل أجهزة الدولة فيها بصخب وعالجتها بطريقة حكيمة من خلال معاقبة من ارتكب ما يعتبر في عداد المخالفات القانونية، ولم يتم تعميمها والنيل من السودانيين.
بينما أدى الاهتمام الشعبي بها على مواقع التواصل الاجتماعي إلى تغذيتها والتعامل معها على أنها أزمة وجودية جماعية، أو مؤامرة يحوكها البعض من أبناء الجالية السودانية المقيمين في مصر، ويقدر عددهم بنحو خمسة ملايين شخص، قد لا يعلم معظمهم حساسية القضية في الوجدان المصري العام، وتصرفوا وفقا لما علّمته إياهم حكومات متعاقبة في بلدهم، وربما لا يعرف أغلبهم شيئا عن موقع حلايب وشلاتين.
لن تتوقف ضوضاء اللاجئين والمهاجرين والمقيمين الأجانب في مصر أو غيرها، فهي واحدة من المشكلات التي تواجه جهات غربية متباينة، ورصدت لها دول أوروبية عديدة مبالغ طائلة للقضاء عليها والسعي للحد من روافدها المتعددة، وتم عقد اتفاقيات مع دول أفريقية مختلفة، بينها مصر، لمكافحة الهجرات غير الشرعية من دول المنبع، وقبل عبور البحر المتوسط، ولا تزال الأزمات تتفجر في بعض الدول بسبب هؤلاء، وهناك انقسامات داخلية حول طريقة المعالجة والاحتواء.
تخطت مصر الكثير من الهواجس التي يحدثها المهاجرون ولم تتصرف معهم باعتبارهم عبئا اجتماعيا، وحوّلتهم إلى ذخيرة يمكن الاستثمار فيها سياسيا واقتصاديا، فهي دولة كبيرة، يتجاوز عدد سكانها مئة مليون نسمة، ولن يضيرها وجود عشرة ملايين وسط هذا المحيط الهادر من المصريين، لأنهم ورقة قد تستفيد منها القاهرة في الضغط على دول أوروبية في بعض القضايا الخلافية، ويكفي التلويح بخروج مليون منهم باتجاه صحراء ليبيا كي يغير الاتحاد الأوروبي من سياساته التي تغضب مصر.
كما أن جزءا من المقيمين جلبوا معهم رؤوس أموال يستثمرونها في مصر، وإذا كان البعض منهم يرهقون الاقتصاد والبنية التحتية ويشعلون النار في أسعار السلع والخدمات في مصر، فإن الشريحة الأولى تضبط التوازن، وهناك ضريبة قبلت مصر أن تدفعها لأجل استيعاب أعداد كبيرة من العرب الذين واجهوا صراعات مزمنة في بلدانهم، ما يمنحها دورا في المنطقة عندما يحسن توظيفها، فخليط الجنسيات الذي يأتي إلى مصر وقصدها كمكان آمن ومستقر هي إشارة تصب في صالح صورة الدولة.
يأخذ مصريون مسألة وجود السودانيين الطيبين في بلدهم على سبيل الضحك، ويتندرون أحيانا على كثافتهم في بعض الأماكن، كأن ينسبون مناطق بعينها إليهم بعد تحوّلها إلى مقر لعدد كبير منهم، ويقال إن عاصمة السودان الآن “فيصل” أو “المطرية” أو “مدينة نصر”، وهذه أسماء أحياء في القاهرة، وهي دلالة على تقبل الأمر بطريقتهم الساخرة، وإمكانية استيعاب الآخر، سواء أكان سودانيا أم سوريا أم يمنيا، ففي جميع الأحوال لا يضج المصريون من وجود عرب يعيشون بينهم بسلام، لكنهم يكرهون التطاول عليهم أو استفزازهم في بلدهم.
رسّخت بعض الحوادث الفردية انطباعات قاتمة عن السودانيين في الهجرة الحالية، وضمت أنواعا من المقيمين الجدد نتيجة الحرب المستعرة في بلدهم وما خلفته من دمار كبير في الخرطوم وغيرها، واستقبلت مصر نحو أربعة ملايين منهم على مدار العقود الماضية جاء غالبيتهم طوعا، ما جعل هناك نوعا من الانتقائية والاختيار الإرادي في الخروج، وليس القسري كما هو الآن، ومن الطبيعي أن تضم الحالة الأخيرة خليطا عشوائيا من مواطنين يمثلون طيفا من أنماط البشر، بحلوهم ومرّهم.
تفسر هذه الزاوية جانبا من التراشقات التي ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي بين مصريين وسودانيين، وهي تعبر في ظاهرها عن أزمة، وتكشف في مضمونها عمّا ولّدته الحرب من مرارات لدى شريحة من السودانيين، وما يمكن أن تحدثه الأزمة الاقتصادية لدى شريحة من المصريين تجاه مواطنيهم أو غيرهم من الأشخاص الذين ينتمون إلى جنسيات أخرى، فالغضب لا ينبع من نظرة شوفينية، بل فرضته أوضاع صعبة يعيشها الناس في كل من مصر والسودان، مع مراعاة الاختلاف في دوافعها.
وكما تم إخماد عاصفة السوريين، سيتم إخمادها، أو أخمدت فعلا، مع السودانيين، لأن الأسباب معروفة عند الدولة المصرية وتعرف أدوات علاجها، حيث تملك من الأساليب ما يمكنها من وأدها مبكرا، عبر حرصها على التصرف بهدوء، وعدم تحويل اللاجئين والمهاجرين إلى قنبلة موقوتة ربما يدفع ضريبتها المجتمع المصري.