ما يجري من عمليات عسكرية اسرائيلية واسعة ومتدحرجة في شمال الضفة الغربية، مدنها وبلداتها وقراها ومخيماتها، والتي يجري فيها استخدام، “عقيدتي الضاحية الجنوبية” و”جباليا، القيام بتدمير الحاضنة الشعبية وحرقها وسياسات الطرد والتهجير والتطهير العرقي، تتعدى أهدافها قضية الجانب الأمني، وما يسمونه قطع أذرع إيران في المنطقة، والقضاء على قوى المقاومة الفلسطينية، ومنع تجذرها وتوسعها وتمددها وتطوير قدراتها العسكرية والتسليحية، وامتلاكها للقدرات التقنية والتكنولوجية، التي تمكنها من تصنيع صواريخ أو مسيرات، وبما يمكنها من تهديد عمق إسرائيل، ولذلك هذه العملية العسكرية المستمرة والمتواصلة على جنين ومخيمها وقراها وبلداتها وكذلك طولكرم ومخيماتها وبلدة قباطية والانتقال إلى طوباس ومخيمات نابلس، الفارعة وعسكر وبلاطة.
كل ذلك يقول أن هذه العملية الواسعة، التي تشبه ما تسمى عملية “السور الواقي” عام 2002 ، الهدف منها إعادة صياغة المشهد الميداني وتحقيق أهداف سياسة واستراتيجية، تخدم حكومة اليمين والتطرف على المدى البعيد، ولتحقيق أهداف مباشرة وغير مباشرة. فالقيام بعمليات “الهندسة” الجغرافية والديمغرافية، وتدمير ممنهج للمخيمات الفلسطينية، وفتح شوارع واسعة فيها، وتقطيع التواصل بين سكان المخيمات، عبر هذه التدمير الواسع للمنازل، 120 منزلاً دمرت بشكل كامل في مخيم جنين، وعشرات أخرى دمرت بشكل جزئي، وكذلك مخيم طولكرم 40 منزلاً دمرت بشكل كامل و 300 محل تجاري، وتضرر عشرات المساكن بشكل جزئي.
شق الشوارع الواسعة، وهدم المنازل والتهجير القسري، ومنع السكان من العودة إلى مخيماتهم، لفترة طويلة، بتصريحات وزير الحرب الإسرائيلي كاتس، حتى نهاية عام 2025، تؤكد أن هذه العملية، التي كان مخططاً لها قبل عملية السابع من أكتوبر2023، لها أهداف تتعلق بشطب حق العودة أولاً، بعد أن جرى شطب وكالة الغوث واللاجئين “الأونروا”، بقرار أمريكي- إسرائيلي، مما يشكل ضغطاً اقتصادياً واجتماعياً كبيرين على سكان المخيمات واللاجئين الفلسطينيين، وكذلك منع سكان المخيمات من العودة إلى منازلهم، يراد منه تفكيك النسيج الاجتماعي لسكان تلك المخيمات، لكي يستقروا في القرى والمدن المحيطة، وبالتالي قطع التواصل الاجتماعي بين سكان تلك المخيمات.
لماذا قبّل جندي إسرائيلي رأس جندي من القسام؟
المشهد يعاد صياغته ميدانياً في شمال الضفة الغربية، وعملية إدخال الدبابات ومدرعات “إيتان” للعمل في شمال الضفة الغربية، وعملية استعراض القوة الواسعة، عبر تلك القوات الكبيرة، التي ستواجه ليس جيشاً منظماً ومدرباً، أو وحدات مقاومة على درجة عالية من التسليح، وهي كذلك لا تمتلك إمكانيات وقدرات قوى المقاومة التسليحية والعسكرية والتقنية والتجسسية والتكنولوجية، التي تمتلكها قوى المقاومة في قطاع غزة، ولذلك واحد من أهداف تلك العملية العسكرية، بث الرعب والخوف في صفوف الشعب الفلسطيني، ودفع الحاضنة الشعبية للتخلي وفك علاقتها مع المقاومة، وكذلك إرسال رسائل طمأنة للمستوطنين بقدرة الجيش الإسرائيلي على تأمين الأمن والحماية لهم على المستويين الشخصي والعام، وكذلك حماية الطرق والشوارع الإستيطانية، وهذا يسير وفق مخطط ضم وتهويد الضفة، وزرعها بعشرات البؤر الاستيطانية والمستوطنات، لإقامة ما تعرف بدولة “يهودا والسامرة” في الضفة الغربية.
يبدو أن إسرائيل عازمة على إضعاف السلطة الفلسطينية إلى أقصى حد ممكن، وهي باتت لا تقيم أي وزن لهذه السلطة وما تبقى من بقايا اتفاق أوسلو، حيث تعمل في مناطق “ألف” والتي يفترض أن تكون تحت سيادة السلطة الفلسطينية، ولذلك تريد أن تظهر تلك السلطة، بالسلطة العاجزة والتي لا تستطيع حماية شعبها، وهذا يضع الكثير من علامات الاستفهام على شرعية هذه السلطة، وما تسميه بخيار “حماية المشروع الوطني”.
إسرائيل في رؤيتها واستراتيجيتها، لا تريد أن يكون هناك أي كيانية فلسطينية تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية على جزء من أرض فلسطين التاريخية، بلغة المتطرف سموتريتش، ” أرض إسرائيل التاريخية”. وهناك قرار في الكنيست “البرلمان الإسرائيلي، تحول لقانون بعد إقراره بالقراءات الثلاث، برفض إقامة دولة فلسطينية، ما بين النهر والبحر، وأي فك أو إلغاء لهذا القرار يحتاج إلى 80 صوتاً من أصل 120، بالإضافة إلى مشاركة المستوطنين في الضفة الغربية بالتصويت عليه.
مشاريع الطرد والتهجير للشعب الفلسطيني، قائمة ومستمرة ومتواصلة، تحت حجج وذرائع “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وتوفير الأمن لمواطنيها، وهي في التماهي الأمريكي معها، لا تقيم أي وزن للمؤسسات الدولية وللرأي العام الدولي، ولا للمؤسسات الدولية ولا للشرعية الدولية، فهي تعتمد على أمريكا، في منع تلك المؤسسات، من ترجمة قراراتها إلى أفعال على أرض الواقع، وخير مثال على ذلك العقوبات التي فرضتها أمريكا على رئيس وقضاة محكمة الجنايات الدولية، لأنها تجرأت وأصدرت مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، ووزير حربه المقال يؤاف غالانت.
ولم تكتف أمريكا بالدعم العسكري والمالي غير المسبوقين لإسرائيل، ولا بتوفير الحماية السياسية والقانونية لها في المؤسسات الدولية، بل أعلنت انسحابها من مجلس حقوق الإنسان ومنظمة الصحة العالمية، وقطع التمويل بشكل كامل عن وكالة الغوث واللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”.
اليوم، نحن أمام مجتمع إسرائيلي تتماهى معه حكومته بيمينيته وتطرفه، ويرفض ويغلق أي حل سياسي مع الشعب الفلسطينيني، ويؤيد مشاريع ومخططات الطرد والتهجير للشعب الفلسطيني، وهذا المجتمع تتعاظم فيه قوى الصهيونية الدينية والقومية، فبعدما كانت تلك القوى على أطراف وهوامش المشروع الصهيوني، باتت في قلبه، وهي المتحكمة في القرار السياسي الإسرائيلي، وفي الحكومات الإسرائيلية بقاءً وسقوطاً، ونحن نرى كيف يخشاها نتنياهو، وهي تمسك بـ”عنق” قراره السياسي، وتهدد مستقبله السياسي والشخصي أيضاً.
الحرب اليوم شاملة على الشعب الفلسطيني، وجوداً وهوية وثقافة ورواية وسردية وتاريخ وحضارة، وانتقلت إلى حرب تصفية لهذا الوجود، في قطاع غزة والضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني ( 48 ) وليس بضوء أخضر أمريكي، بل هناك شراكة أمريكية كاملة، دعم وتغطية وحماية.
هذه المشاريع والمخططات التهويدية والاقتلاعية التي يتصدى لها الشعب الفلسطيني وقواه الحية، تحتاج إلى إرادة فلسطينية، توحد هذا الشعب، و”تصهر” كل مكوناته ومركباته سياسية ومجتمعية ومؤسساتية وشعبية وجماهرية، في “بوتقة” واحدة، تعزز من قدرات وإمكانيات بقائه وصموده، وهذا لن يكون ممكناً في ظل استمرار الشرذمة والانقسام وغياب القيادة المؤتمنة المتسلحة بالشعب وحواضنه ومؤسساته وقواعده، وكذلك العمل على تفعيل البعد الشعبي العربي والإسلامي، واستمرار الضغط على النظام الرسمي العربي، لكي يترجم قراراته السياسية والإعلامية، برفض خطط ومشاريع ومخططات طرد وتهجير الشعب الفلسطيني” خطة ترامب” وغيرها إلى فعل وقرارات تترجم على أرض الواقع، فالرفض على المستوى النظري والسياسي والإعلامي، على الرغم من أهميته، ولكنه لن يفلح لا في منع تنفيذ خطه، أو “قبر” مشروع.