تواجه كندا موقفاً معقداً، حيث بدأت جارتها الودودة عادةً، وإن كانت متقلبة، في ممارسة ضغوط متزايدة. فهل تطلب منها التوقف بلطف، أم ترد بالمثل؟
في ظل تهديد الرئيس الأميركي دونالد ترمب بشن حرب اقتصادية، يبدو نهج كندا أكثر تعقيداً، لا سيما عندما يتعلق الأمر بساحة المعركة الكبرى، ألا وهي الطاقة.
قامت صادرات كندا من الطاقة إلى الولايات المتحدة، خاصة النفط، بتحويل ما كان فائضاً تجارياً أميركياً إلى عجز مثير للقلق بالنسبة لترمب. وكما ذكرت سابقاً، فإن قطاع النفط في البلدين متشابك عبر شبكة من خطوط الأنابيب التي تربطهما ضمن علاقة تكافلية ومجزية بشكل استثنائي. تمتلك كندا خيارات محدودة لصادراتها النفطية بخلاف المصافي الأميركية في الغرب الأوسط، التي تفتقر أيضاً إلى بدائل أخرى للحصول على النفط الخام الثقيل الحامض الذي تفضله، والذي تنتجه كندا بكميات كبيرة. هذا هو الاعتماد المتبادل في قطاع الطاقة.
هذا يعني أنه إذا فرض ترمب رسومه الجمركية التي هدد بها، حتى وإن تأخرت، فإن جزءاً من تداعياتها سينعكس على الولايات المتحدة. وبذلك، يعد قطاع الطاقة أهم ورقة ضغط تمتلكها أوتاوا. ويتجلى هذا بوضوح في قرار ترمب، صانع الصفقات البارع دائماً، نفسه بتحديد رسوم جمركية أقل على قطاع الطاقة الكندي، حيث بلغت 10% مقارنة بنسبة 25% على الواردات الأخرى.
تأييد شعبي لزيادة أسعار النفط
هذا القلق الواضح يقدم مبرراً لكندا لاستخدام الطاقة كورقة ضغط. فقد أظهر استطلاع حديث أُجري لصالح “بلومبرغ نيوز” أن 82% من الكنديين يؤيدون رفع أسعار صادرات النفط إلى الولايات المتحدة من جانب واحد. حتى في مقاطعات البراري الغربية، التي يعتمد اقتصادها بشكل أكبر على صادرات الطاقة، وحيث يعارض المحافظون فيها فكرة فرض ضرائب على الصادرات، بلغت نسبة التأييد 72%. وحتى الآن، تعاملت كندا بذكاء مع ترمب، حيث قدمت تنازلات شكلية مقابل تأجيل فرض الرسوم الجمركية. لكن إذا أصبحت هذه الرسوم أمراً واقعاً، ستتصاعد الدعوات المطالبة باتخاذ إجراءات انتقامية ضد الولايات المتحدة.
في المقابل، فإن الرسوم الجمركية التي تقترحها أوتاوا على مجموعة منتقاة من الواردات الأميركية ذات أهمية سياسية، لكنها غير مجدية اقتصادياً. ويعود ذلك إلى أن حجم الاقتصاد الأميركي يفوق نظيره الكندي بأكثر من عشرة أضعاف، كما أنه أقل اعتماداً على التجارة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، إذا كان الهدف هو إجبار الولايات المتحدة على تغيير موقفها، فإن كندا لا تملك النفوذ الكافي لتحقيق ذلك.
إقرأ أيضا : الابتزاز التجاري سيرتد على الولايات المتحدة الأميركية
الطاقة أداة ضغط
يُعد قطاع الطاقة حالة خاصة، حيث توفر كندا نحو نصف واردات النفط الأميركية، إضافة إلى كونها مصدراً مهماً للغاز الطبيعي والكهرباء بالنسبة لعدة ولايات حدودية. لذلك، ينبغي لكندا استغلال هذا النفوذ، لكن بحذر شديد.
يعد وقف إمدادات الطاقة بالكامل إلى الولايات المتحدة الخيار الأكثر تطرفاً، وهي فكرة أثارها رئيس وزراء أونتاريو دوغ فورد في ديسمبر. فهذا الإجراء قد يوفر إرضاءً فورياً، إلى حد ما، للرغبة في الرد، حيث إنه قد يؤدي إلى انقطاع التيار الكهربائي في مناطق مثل نيو إنغلاند. أما بالنسبة للنفط، إذا ظلت العوامل الأخرى على حالها، فإن منطقة الغرب الأوسط الأميركية ستستهلك مخزوناتها النفطية التي تغذي محطات الوقود في غضون 10 أسابيع تقريباً، وسيؤدي الهلع الشرائي إلى ارتفاع الأسعار فوراً.
رغم أن هذا الإجراء قد يثير قلق ترمب، فإنه قد يحول اللوم في نظر العديد من الأميركيين من حربه التجارية العبثية إلى كندا نفسها، خاصة إذا أسفر انقطاع الطاقة في الشتاء عن وفيات. في الوقت نفسه، فإن إيقاف الصادرات بالكامل، التي تمثل نحو 6% من الناتج المحلي الإجمالي لكندا، قد ينعكس سلباً على اقتصاد البلاد، لا سيما في مقاطعة ألبرتا. ورغم أن تقليل اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة الكندية عبر إعادة هيكلة البنية التحتية، خاصة خطوط الأنابيب، قد يستغرق أشهراً أو حتى أعوام، فإن وقف الإمدادات قد يمنح ترمب الفرصة لإعلان “حالة الطوارئ في مجال الطاقة” التي يتطلع إليها، مما يسمح له بتمرير مشاريع جديدة دون الخضوع لمراجعات بيئية.
بدائل أقل حدة
يعد فرض ضريبة على الصادرات خياراً أقل تشدداً من قطع الإمدادات بالكامل. ويعد هذا الإجراء معاكساً للرسوم الجمركية على الواردات، لكن مع تحصيل أوتاوا للعائدات بدلاً من واشنطن. ومع ذلك، كما هو الحال مع الرسوم الأميركية على الواردات، فإن منتجي النفط الكنديين سيتحملون جزءاً كبيراً من العبء، نظراً لمحدودية خياراتهم البديلة للتصدير. وللحفاظ على قدرتهم التنافسية، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى خفض أسعار البراميل لاستيعاب جزء من ضريبة التصدير على الأقل. ورغم أن المصافي الأميركية ستتحمل أيضاً قسطاً من هذه التكاليف، فإن كندا ستظل تواجه انخفاضاً في عائدات النفط، مما يعني تراجع الإيرادات الضريبية المتوقعة، خاصة إذا تزامن فرض ضريبة التصدير مع الرسوم الجمركية الأميركية.
يعد خيار خفض الإنتاج خياراً أكثر إثارة للاهتمام، لا سيما في قطاع النفط، حيث يمكن للمنتجين الكنديين تقليل إنتاجهم (على غرار ما يفعله تحالف “أوبك+”). ورغم أن هذه الخطوة تبدو وكأنها تضر بالإيرادات بشكل متعمد، إلا أنها قد توفر حماية ضد الرسوم الأميركية، وفقاً للاقتصادي كينت فيلوز من جامعة كالغاري. وفي حديث له في بودكاست حديث، أوضح فيلوز أن تقليل الإنتاج من شأنه رفع سعر النفط الكندي، مما قد يساعد في الإبقاء على الإيرادات الكلية عند مستويات مستقرة.
تأثير خفض الإنتاج على السوق
هذا الإجراء سيجعل المستهلكين الأميركيين أكثر تأثراً بالرسوم الجمركية التي فرضها ترمب، حيث ستظل أسعار النفط الكندي أكثر استقراراً، دون أن يبدو الأمر وكأنه إجراء انتقامي مباشر. ويشبه فيلوز هذه الاستراتيجية بتعليق مؤقت لقوانين مكافحة الاحتكار، التي تهدف عادة إلى حماية المستهلكين من الأسعار المرتفعة بشكل مصطنع. لكن بالنظر إلى أن الجزء الأكبر من النفط الكندي يُستهلك في الولايات المتحدة وليس داخل كندا، فإن هذه القوانين في الواقع تحمي الأميركيين أكثر مما تحمي الكنديين.
وقد ثبت نجاح هذا النهج من قبل. ففي عامي 2017 و2018، أدى ارتفاع إنتاج النفط الكندي إلى اختناق في سعة خطوط الأنابيب، مما تسبب في انخفاض حاد في الأسعار المحلية. ورداً على ذلك، أصدرت حكومة ألبرتا قراراً بخفض منسق في الإنتاج بنسبة 9%. وكانت النتيجة ارتفاع الأسعار بنحو 70% خلال أسبوع واحد فقط، حتى قبل بدء تنفيذ التخفيضات فعلياً.
ويمكن النظر إلى رسوم ترمب الجمركية باعتبارها قيوداً مشابهة على صادرات النفط الكندي تؤدي إلى خفض الأسعار التي يحصل عليها المنتجون الكنديون.
قد يكون خفض الإنتاج خياراً مقبولاً في ظل الانقسامات السياسية بين المقاطعات الكندية، وهو أمر بالغ الأهمية في هذه المرحلة. وينبغي أن تكون تهديدات ترمب وإهاناته رسالة واضحة لكندا بأن تجاوز الخلافات الداخلية السابقة وتأمين مسارات جديدة لتصدير الطاقة لم يعد خياراً، بل ضرورة كإجراء احتياطي. فقد استندت الميزة النسبية التي شكلت العلاقة بين الولايات المتحدة وكندا في مجال الطاقة إلى افتراض عقلانية الطرفين والاحترام المتبادل بينهما، لكنه أمر لم يعد من الممكن اعتباره أمراً مسلماً به. ويشير استطلاع الرأي إلى أن فرصة اتخاذ موقف موحد قائمة، لا سيما وأن سياسات ترمب الاستفزازية هي التي أثارت مثل هذا التحرك.