النظام السوري بعد موت رئيسي.. هل يتحرر من قبضة الديون؟
إيران تريد وضع اليد المباشرة على سوريا، ولم تعد تكتفي بدعم النظام بالمستشارين وبالفصائل العسكرية والميليشيات العسكرية، فهي تريد تملك الأراضي في سوريا، والقبض على مؤسسات القطاع العام كالاتصالات والصناعة والكهرباء والتجارة والتربية والتعليم، بالإضافة إلى الحصول على امتيازات تجارية واسعة
يعمل النظام السوري على تقطيع الوقت، وكل يوم بيومه، فهو يراهن على التغييرات الإقليمية والتبدُّلات في السياسة الدولية، ويتحايل من خلال موقف الصمود والتصدي بإطلاق شعارات مؤدلجة بنَفَس قومي معاد للغرب وإسرائيل، لكنه صمَتَ صمت القبور في حرب غزة، فها هو اليوم يعتبر نفسه قد تحرر من ضغط الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي قضى على متن مروحية مع وزير خارجيته، من عبء الديون التي مدته بها طهران طوال سنوات الثورة السورية من نفط وغاز وطاقة كهربائية وأدوية وقمح وغيرها، حيث تميّز عهد رئيسي بالضغط المباشر على النظام السوري لتحصيل الديون الإيرانية البالغة نحو 50 مليار دولار، بعد أشهر قليلة من توليه منصبه.
وبدأ يتشكل رأي عام معارض داخل إيران وخارجها، وتتحدث وسائل الإعلامية الإيرانية عن ضرورة تحصيل الديون من سوريا، ثم بدأت إيران بممارسة الضغوط من خلال التأخر بإرسال شحنات النفط للنظام، وهو ما وضع سوريا والسوريين في حال من الشلل، بعد وقف توريدات النفط الإيرانية، فهل يصح هذا الرهان اليوم من قبل النظام السوري بعد وفاة رئيسي؟ أم أن معطيات طهران وأولوياتها قد تبدَّلت في المنطقة بعد الضربات الموجعة التي تلقتها من إسرائيل على أرض سوريا، وطالت قيادات عسكرية وازنة متهمة النظام السوري بتسريب المعلومات لإسرائيل عن أماكن وجودهم؟
حتى تاريخ وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، لم تستجب طهران لطلب النظام السوري بالاستمرار بتزويده بالوقود، رغم الزيارات الدبلوماسية المتكررة لفيصل المقداد، ولم تسفر إلاَّ عن إرسال عدة سفن متواضعة محملة بالنفط، على أمل الوعد بتلبية طلب رئيسي تشكيل لجان مشتركة لتحديد قيمة الديون وطريقة تسديدها بعد زيارة الأخير لدمشق، لكن رهان الأسد هذه المرة قد أصاب ولم يُكتب النجاح لمسيرة الرئيس الإيراني بسبب وفاته.
لكن العين الإيرانية كانت مصوَّبة على أبعد من مجرد تسديد ديون نفطية ومساعدات، حيث كان ظاهر تبادل الزيارات مسألة ترتيب وجدولة الديون المستحقة لإيران، لكن باطنها وبحسب ما كشفته وسائل إعلام دولية، تحصيل الديون الإيرانية على النظام السوري، بعد ضجر مسؤولي الأخير وشكواهم عبر اللجان المشتركة من أنهم تفاجؤوا بأن طهران تطلب تنازلات سيادية مقابل الديون تتعلق بأن يعامل الإيرانيون في المستشفيات، والمؤسسات العلمية كما السوريين، وبأنه في حال ارتكب إيرانيون جريمة، فإنهم يحاكمون أمام القضاء الإيراني وليس القضاء السوري، على شاكلة الاتفاقية مع موسكو في العام 2015 التي أعطت امتيازات عسكرية ودبلوماسية واسعة، وتشبه كذلك الاتفاقيات التي كانت قائمة بين الدول الغربية والإمبراطورية العثمانية قبيل انهيارها، بعد أن سُمِّيت بالرجل المريض.
إيران تريد وضع اليد المباشرة على سوريا، ولم تعد تكتفي بدعم النظام بالمستشارين وبالفصائل العسكرية والميليشيات العسكرية، فهي تريد تملك الأراضي في سوريا، والقبض على مؤسسات القطاع العام كالاتصالات والصناعة والكهرباء والتجارة والتربية والتعليم، بالإضافة إلى الحصول على امتيازات تجارية واسعة وإستثمارات يتولاها مباشرة وتكون إدارتها بيد الحرس الثوري للتخفيف من ضغط العقوبات الغربية وتحصيل إيرادات مالية يمد فيها فصائله وأذرعه العسكرية في المنطقة.
والواقع بحسب ما تشير مصادر ديبلوماسية غربية فإن رئيس النظام في سوريا قد وقَّع على هذه الاتفاقيات مجبراً، لكن راوغ في تنفيذها منتظرا الوقت المناسب، بعد أن زادت ضغوط طهران على دمشق من جديد باستخدام سلاح إيقاف شحنات النفط، وعبر السفير الإيراني لديها، الذي طالبهم بضرورة الإسراع بتنفيذ الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الجانبين.
رغم قصرها، هي مرحلة من العلاقات المتشنجة بين إيران والنظام السوري، وأبرز ما ميّز عهد الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، والذي ينتمي إلى تيار المحافظين المتشددين، وكان من أكثر المؤمنين بمشروع إيران التوسعي في المنطقة، لهذا كان يتم إعداده لخلافة المرشد الأعلى بعد وفاته، لكنها المرحلة الأكثر دموية، من خلال ما طال قيادات إيرانية وفي “محور المقاومة” من عمليات اغتيال مباشرة إسرائيلية على الأرض السورية.
يقال، في إيران مؤسّسات دولة عميقة راسخة قادرة على الانتظام وعلى إعادة تصحيح نفسها بنفسها من الداخل، وفي الفترة الانتقالية يفترض أن تستمرّ السياسات التي رسمتها طهران قبل سقوط المروحية، لكن المنطقة حتماً أمام تغيُّرات وتبدُّلات في سياسة إيران الخارجية في المواجهة، أقله ستكون المنطقة أمام مرحلة كالتي بدأت بعد العام 2003 بعد أن كشرت عن أنيابها بإظهارها الخشونة العسكرية إبان الإجتياح الأميركي للعراق التي على إثره ضربت المشاريع السياسية والاقتصادية التي قامت بعد الحرب الأهلية عام 1990، فبعد أن ضُرب المشروع الأميركي السوري السعودي في لبنان، يتبلور ويتأسس مشروع أميركي إيراني مزدوج في تقاسم دائرة النفوذ في المنطقة بعد تحييد السعودية وبعض دول الخليج عن فعل التأثير المباشر، ولذلك لن يتوقف الضغط على النظام السوري بموت ابراهيم رئيسي، بل سوف يستمر لكن بوتيرة أخف لأنها مسألة استراتيجية بالنسبة لإيران.
في جميع الأحوال، قد لا تتوقف إيران عن المطالبة بديونها، لكن بلا شك فإن النظام السوري سوف يرتاح كثيراً في المرحلة المقبلة من الضغوط الإيرانية إلى حين الانتهاء من إعادة انتخاب رئيس جديد وعودة الاستقرار للحياة السياسية في البلد، ثم من جهة ثانية فإن انتظار سياسة إيرانية جديدة مع الرئيس الجديد، أمر يمكن الرهان عليه، لا سيما أن المرشد الأعلى علي خامنئي، بموت إبراهيم رئيسي، يكون قد فقد أبرز أذرعه في مشروعه السياسي، الداخلي والخارجي.