النظام الدولي مثل الكائن الحي، يتبدل ويتغير، يقوى ويضعف، ولا يبقى على حال أبداً، فالنظام الدولي في القرن التاسع عشر لا يشبه النظام الدولي في القرن العشرين، وعلى ذكر ذلك، فإن صراعات القرن التاسع عشر بين الدول الاستعمارية هي التي قادت إلى حرب عالمية أولى فاجأت الجميع بعدد قتلاها وعدد المشاركين فيها، وهي حرب أدت الى ميلاد نظام دولي جديد أراد أن يثبت السلم والاستقرار الدوليين، أنشأ عصبة الأمم سنة 1919 في محاولة من هذا النظام لمنع الحرب بعد أن رأى الجميع أهوال الحرب العالمية الأولى، ولكن عصبة الأمم فشلت في أن تقدم الحلول أو تواجه التحالفات العسكرية الجديدة، فالنظام الدولي في بداية القرن العشرين عكس إرادة الأمم المنتصرة وأطماعها وجشعها الذي لم تستطع أن تكبحه، ولهذا، لم تمض عدة سنوات أخرى حتى انفجرت الحرب العالمية الثانية بين قوى الغرب الاستعماري مرة أخرى، ولأول مرة يفاجأ العالم بانفجار قنبلة نووية مريعة قادرة على مسح البلاد والعباد، تداعى المنتصرون مرة أخرى لتأسيس منظمة دولية قادرة على حل الخلافات وتسوية النزاعات بعيدة عن الحرب المدمرة، فكان أن ظهرت هيئة الأمم المتحدة ومن ضمنها مجلس الأمن الذي يضم الخمسة الكبار المنتصرين والقادرين على ضبط العالم ومعاقبة المعتدي وتشجيع مبادرات التعاون والتنمية.
وبعد مضي أكثر من خمسة وسبعين سنة على تأسيس هيئة الأمم فإن هذه الهيئة فشلت أيضاً في حل كثير من الصراعات والنزاعات، كانت هناك نجاحات ولكن تغول قوى الاستعمار كان أقوى، وشهدت فترة ما بين 1945 وحتى سنة 1991 حرباً باردة بين قوتين عظيمتين هما الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، وكان الصراع بينهم على كل شيء، الثروات والدول والأيدولوجية والنفوذ، وقد دفع العالم العربي أثماناً باهظة جراء هذه الحرب، فيما دفع الشعب الفلسطيني الكثير أيضاً إذ أن الخلاف العالمي أخر الحل العادل أو عطله أو لم يكن جاداً فيه.
بعد العام 1991 انهار الاتحاد السوفييتي وصار العالم محكوماً بقوة عالمية واحدة وهي الولايات المتحدة الأمريكية، وقد دفعنا ثمن ذلك أيضاً، من خلال اتفاق أوسلو الذي يعكس هزيمة قوى التحرر أمام الغرب الاستعماري، وهذا يقودنا إلى الادعاء بان عصبة الأمم في بداية القرن العشرين شرعنت احتلال بريطانيا لبلادنا فيما سمي الانتداب، أما هيئة الأمم في منتصف القرن العشرين فقد قررت تقسيم بلادنا وحتى هذا القرار لم يتم احترامه أيضاً، أما عندما أصبح العالم بقطب واحد فقط طلب منا أن نجري تسوية تاريخية مع محتلنا تحت اسم تسوية ملتبسة. هذا فيما أن النظام الدولي مهما كان مضموناً فهو صنع للأقوياء وعلى الضعفاء أن يدفعوا، في التحولات الكبيرة لا بد أن تكون هناك ضحايا.
الألفية الثالثة فقد شهدت ظاهرة بالغة الأهمية ألا وهي تعدد الأقطاب، وتوزيع هائل للقوى النووية وصعود دول كبيرة ذات نفوذ أو ترغب به، ترافق ذلك مع سعي الولايات المتحدة وإسرائيل وغيرها من الدول إلى تجاوز هيئة الأمم المتحدة، ومؤسساتها، وكانت ذروة ذلك أن أمريكا وإسرائيل هددتا محكمة الجنايات الدولية وفرضتا عليها عقوبات، كما أن إسرائيل لم تطبق أي قرار يتعلق بالانسحاب من الأراضي المحتلة، وهناك دول أخرى فعلت ذلك بطريقة مهينة، وهي سلوكيات تقود إلى ضرورة ولادة نظام دولي جديد يعكس تعدد الأقطاب وتغيير الجغرافيا السياسية، وطبيعة التحالفات، لأن من الممكن جداً أن تؤدي الأطماع الجديدة والأحلاف الجديدة إلى حرب مدمرة ثالثة، وهنا الفرصة مهيئة كما نرى في جنوب شرق آسيا، وشرق أوروبا، وكذلك توجهات أمريكا التوسعية والعدوانية الجديدة. النظام العالمي الجديد الذي بدأت ملامحه بشكل واضح يتجلى، وذلك بتجاوز الهيئات الدولية الجديدة واحتقار القانون الدولي وسرعة تشكل التحالفات والأقطاب بعيداً عن الأمم المتحدة، وكذلك عدم تمويل المنظمة الدولية أو الاشتراطات السياسية التي تعطل عملها.
والسؤال هو: بما أن النظام العالمي الجديد آخذ بالتشكل أمام أعيننا، فما هو دور العرب، وبالتالي دور الشعب الفلسطيني في هذا النظام؟!
هل سنكون من الضحايا الذين يدفعون ثمن التحول؟ أم أننا سنكون من الغائبين تماماً عن المشهد ؟! أم سيكون لنا ولأمتنا العربية قول آخر؟
وإذا كان الشعب الفلسطيني القربان الذي يقدم على مذبحة الكبار بحيث ضاع الوطن الفلسطيني على مائدة عصبة الأمم، فهل ننتظر لا سمح الله أن يتم تقسيمنا مرة أخرى أم شطبنا إلى الأبد ؟
وللإجابة على هذا السؤال فإن الأمر متعلق بالنظام العربي الذي يتمتع بكل الظروف والثروات التي تؤهله الحضور بقوة على المائدة الدولية، وأن يفرض أجنداته ومصالحه على العالم، لا ينقص العالم العربي شيء من أجل أن يكون حاضراً في النظام العالمي الجديد من خلال ديبلوماسيته واعتداله وقدرته وحكامه الذين تعلموا الدرس جيداً، وحتى نقلع جميعاً عرباً وفلسطينيين، وحتى يكون لنا مكان تحت الشمس في النظام الجديد فإن هذا الموقف العربي لن يكتب له النجاح في حماية القضية الفلسطينية، وحل الدولتين، ومنع شطب منظمة التحرير الفلسطينية، وكذلك حماية القيادة الشرعية، والتصدي لفكرة تهجير الشعب الفلسطيني، إن لم تكن هناك استراتيجية فلسطينية واضحة تقوم على:
• إنهاء الانقسام الفلسطيني المشين، ووحدة الصف، ووحدة الموقف، وانضواء الكل تحت راية منظمة التحرير الفلسطينية، وتحصين شرعيتها للشعب الفلسطيني، ممثلاً وحيداً.
• تعزيز العلاقة مع الدول العربية، من خلال توحيد الرؤى، والأخذ بعين الاعتبار ما تقدمه بعض الدول حول تطوير الأطر القيادية الفلسطينية، والأهم هنا، وحدة حركة فتح، الضامن للوطنية الفلسطينية.
• تعزيز صمود الشعب الفلسطيني على الأرض، والدفع باتجاه مقاومة شعبية سلمية واسعة ونقية، خاصة في المناطق المصنفة (ج).
• العمل الجاد من أجل تولي السلطة الفلسطينية سلطتها القانونية والإدارية والأمنية على قطاع غزة، وإعادة توحيد وبناء المؤسسات الفلسطينية بشكل يرى المجتمع الدولي بأن مؤسسات الدولة الفلسطينية ناجزة وشفافة وقادرة على القيادة.
• رفع راية الدفاع عن مؤسساتنا وعن مدينة القدس، وتعزيز صمود أبناء المدينة المقدسة.
• العمل الجاد على محاصرة السياسة الغسرائيلية، خاصة على الصعيد الإعلامي والسياسي والقانوني، والتفعيل لكل قوى المجتمع الفلسطيني، بما فيها الدبلوماسية الشعبية.
• التمسك الدائم بقرارات الشرعية الدولية، وبذل الجهود مع الأخوة العرب وكل الأصدقاء لدعم تنفيذ هذه القرارات.
• إعادة النظر في التحالفات، آخذين بعين الاعتبار التوازنات الدولية، وتمكين العلاقة مع كل من الصين وروسيا والدول الصاعدة مثل الهند والبرازيل.
إن حماية فكرة الدولة هي مسؤولية الكل الفلسطيني، وبمظلة عربية واحدة، خاصة من دول الاعتدال العربي القادرة الآن على لعب دور هام في السياسة الدولية.
إن العالم يتغير بسرعة، ونظام القطب الواحد فشل في إحلال السلام الدائم، وبالتالي نحن أمام تشكيل نظام دولي جديد، قائم على تعدد الأقطاب، الأمر الذي يعني ميلاد هيئات دولية جديدة، وربما دول جديدة، وتحالفات جديدة، وتعدد الأقطاب يعني توزيع القوة والنفوذ على حساب الضعفاء، وحتى لا نكون ضحايا هذا النظام، وحتى لا ندفع ثمنه غياباً أو استسلاماً فإنه من الضروري لنا أن نجد طريقة فاعلة للحضور والمشاركة في هذا العالم، أما دولتنا فلسطين، فقد طال الوقت لأن تكون جزءاً من نظام عالمي متعدد الرؤى والقوى والتحالفات.
وأياً كانت طبيعة النظام الدولي الجديد، سيبقى قيام دولة فلسطينية مرهون بالجاهزية الفلسطينية، وموقف شعبنا المتمسك بحق تقرير المصير، والموقف العربي الصلب والمتمسك الدولة الفلسطينية المستقلة.